ليس لدى معظمنا تفسير محدد للقذائف التى تتساقط على رأس حمدين صباحى ورفاقه، بعد قراره الترشح لانتخابات الرئاسة، فى حين المنطق كان يستوجب التحية والتشجيع، لأن قراره الجريء ربما ينقذنا من أزمات سياسية لاحقة. القاصى والداني، يعرف أن صباحى طموح منذ الشباب، ويتمنى الجلوس على المقعد الوثير، وله تجربة جيدة فى ملعب الانتخابات الرئاسية، فاقت توقعات كثيرين، عندما حل ثالثا فى المرة السابقة. وترشحه الآن لم يأت من فراغ، فخلفه التيار الشعبي، الذى خرج منه عدد كبير من شباب « تمرد»، وحركوا المياه الراكدة، فى وقت كاد البعض، يستسلم لحكم الإخوان. والرجل كان متسقا مع المزاج العام، ولم ينكر شعبية المشير عبد الفتاح السيسي، ونوه إلى دعمه وتأييده. لكن دهاء صباحى السياسى هداه إلى الرضوخ لمطلب قطاع عريض فى تياره، وهو يعى أن استجابته قد تكون قفزة فى الهواء الطلق تقضى على مستقبله السياسي. وربما تكتب له تاريخا مجيدا، فالخطوة التى قام بها تنطوى على ما يعززها من الناحية البرجماتية، وإن شئت الدقة سمها بالانتهازية، وهى صفة لتصرف وليست قدحا فى حق الرجل، ففى عالم السياسة كل شيء مباح، وهذا الأسلوب منتشر فى ملاعبها، ومن يلفظه يحسبه البعض من الفاشلين. جسارة صباحى، جاءت من علمه بالحجم الشعبى للمرشح القوى المنتظر، ويقينه الشديد أن المؤمنين بالمشير كثيرون، والمنافقين ليسوا قليلين، ولو سلم بهذه القاعدة وآثر الفرار، كما فضل البعض، لتحولت انتخابات الرئاسة إلى استفتاء على نسبة الشعبية التى يحظى بها السيسي، وردد الإخوان وحلفاؤهم، إسطوانة أن ما جرى فى الثلاثين من يونيو «انقلاب». كما أن دخوله السباق، ألمح إلى تغير أشياء فى مصر كان يصعب زحزحتها عن مكانها، ومن بينها محرمات (تابوهاوت) أدمن البعض صنعها من تلقاء نفسه، ولا يزال هناك تصميم على تأسيس دولة مدنية قابلة للحياة، تستوعب جميع ألوان الطيف السياسي، الأمر الذى شدد عليه أكثر من مرة المشير السيسي. وستظل شجاعة صباحى محمودة، حتى لو كان دافعه رغبة دفينة فى تسليط المزيد من الأضواء عليه فوق خشبة المسرح السياسي. جانب الانتهازية يظهر أمامنا فى عدد من المقاطع، تؤكد أن ترشح صباحى خضع لحسابات تتعلق بثقته فى نزاهة الانتخابات، وقراءة المشهد بطريقة منحته بصيصا من الأمل، أو على الأقل عدم استبعاد «خسارة كريمة»، لأنه يواجه منافسا غير عادى فى شعبيته. والرجل استشعر وجود فئة من الشباب تقف موقفا رافضا لأى مرشح له جذور عسكرية، وتضررت مجموعة من أفرادها، بسبب أخطاء وقعت خلال الفترة الماضية. وهى فئة أكثر انتشارا وأقل عددا، لأن الشريحة الكبيرة مؤيدة للسيسى فى هدوء، ويصل سقف طموحها الساكت لما هو فوق التوقعات أحيانا. لكن الضجيج الذى يحدثه الصوت الأعلى يشوش دائما على أصحاب الصوت الخافت. وأنا لا أنكر حق هؤلاء فى دعم هذا، وحق هؤلاء فى تأييد ذاك. والفائز فى الحالتين التجربة المصرية الجديدة. من جهة ثانية، لم يكن غائبا على حسابات صباحى السياسية، أن كفة أصوات الإخوان وأنصارهم، سوف تميل لصالحه، كنوع من التصويت الاحتجاجى على ترشح المشير السيسي، الذى أحبط مخططاتهم، ويعتبرونه عدوا لدودا، للدرجة التى يمكن أن تنسيهم الميراث السييء مع فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكل من يمت إليه بصلة من قريب أو بعيد. وقد استعد أنصار صباحى للرد على سلة أصوات الإخوان المنتظرة، بأن عداءهم للناصرية ما زال مستحكما، ومصلحتهم تكمن فى نجاح السيسى باكتساح، لدعم الكذبة التى اخترعوها بأن عزل محمد مرسى جاء نتيجة «انقلاب». ومهما تكن وجاهة هذا المبرر، فإن التفكير السياسى للإخوان يميل إلى دعم صاحب شعار « واحد مننا «، خاصة أن هناك تحالفا سياسيا وقع فى الانتخابات البرلمانية الماضية بين جماعة صباحى والإخوان. من جهة ثالثة، لم تغب عن عيون وآذان التيار الشعبي، الغضب المكتوم فى صفوف قطاع من فلول الحزب الوطنى (المنحل)، بدأ يشعر بالقلق من التأكيد الرسمى بأن يناير ثورة وليست مؤامرة، وزاد القلق بعد احتفال المؤسسة العسكرية بالذكرى الثالثة لهذه الثورة، والإشارات المختلفة التى ترسل من حين لآخر بشأن عدم العودة لعصر مبارك أو زمن الإخوان. وبالتالي، من مصلحة هذا الفريق الحائر، الذى تصور فى لحظة معينة أنه سيعود بديلا للإخوان، البحث عن ملاذ أو صفقة سياسية، تضخ فى عروقه الدماء. ولأن طريق السيسى يبدو مغلقا بالضبة والمفتاح، فقد يلجأ هذا الفريق إلى مغازلة صباحى أو جس نبضه. وهو محل رفض معلن من الأخير درءا للتشويه، لكن قد تكون للضرورة أحكام أو مناورات سرية، وفقا للانتهازية المعروفة عن كثير من السياسيين، ليس سعيا وراء النجاح، لكن رغبة فى الحفاظ على ماء الوجه. الواقع يؤكد أننا فى مفترق طرق، إما أن نؤسس لدولة ديمقراطية، ونتعود على تقاليد المكسب والخسارة، والطموح والجموح، ونختار على أساس البرامج، أو نواصل إدمان دفع التكاليف. ومهما يكن الاختلاف والاتفاق مع قرار حمدين صباحي، فهو جسور ومفيد فى مجال إعادة الاعتبار لمبدأ التعددية السياسية. لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل