يقولون أني على الأرجح مجنونة كوني اخترت أن أدفع نصف راتبى ايجار لشقة غرفة واحدة. المبلغ كبير طبعا، والشقة أحادية الغرفة لا يمكن اقتسام ايجارها مع شركاء آخرين. كما أني سأتحمل نفقات الكهرباء والغاز وإكراميات البواب وحدي. لن أخبرهم كم تكلف طلاء الشقة الجديدة. أصلا يظنون أني مجنونة كوني أعدت طلاء شقة لا يربطني بها صكّ ملكية. لا يهم. يكفيني ذلك البراح الذي منحني إياه لون الطلاء الوردي بعد أن اكتست به الحوائط العالية لهذا المبنى القديم. سأذكر لهم فقط اسم صديق مجنون آخر اشترى براحه بمائة ضعف مما أدفعه أنا. تملك جزءا من حلمه بعقد شقة إيجار قديم في القلب من وسط القاهرة، ودفع لها ما أبى أن يدفعه ليطرق أبواب الأحياء الصحراوية المغلقة التي يسكنها –في اعتقادي- المجانين . كلنا مجانين إذن. فليدع كل منا الآخر لشأن ما أجنه. سترفض ذاكرتي دائما الاعتراف بأضخم فاتورة للكلام: فاتورة مكالماتنا الدولية التي جاءتني حين كنت أنت بعيدا وكان الكلام حتميا . سأخادع ذاكرتي دائما وأمنح مكانة «الفاتورة الأغلى للكلام» لمكالمات أخرى دارت في أطول أسفاري أنا لكلام عادي لم تكن أنت طرفا فيه. ولكن ستتربع أنت في ذاكرتي بلا منازع كصاحب «الفاتورة الأغلى للصمت» الذي ضرب حائطه بيننا بعد كل هذا الكلام. وستظل صديقة واحدة تعرف بأمر هذه الفاتورة وتفاصيل هذا الكلام. وستذكرني مرارا بخساراتي الهاتفية وبالكلفة الباهظة للوقوع في الحب. من قال أن الكلام مجاني خدعنا خدعة كبرى. فواتير الجنيهات الألف التي تواترت أكثر من مرة لتملأ أرفف مكتبتي تدل على أن الكلام مُكلف جدا. كتب كانت عناوينها في تلك الفواتير لم تصمد على أرفف المكتبة. رقدت في سلام مع صناديق الكراكيب، ولسان حالها يقول ليس كل ما يُكتب يجب أن يُثمن ويُشترى. وقطعا ليس كل ما يقال. أحمل الورقة الخضراء من فئة المائة ذات المضاعفات التي تختلف قيمتها في شارع البستان عن قيمتها في شارع طلعت حرب. بدون مقدمات يقول الغريب الذي يقف على ناصية شارع البستان: «عاوزة صرافة يا آنسة؟!» وأرد: «لا شكرا قوي». أمضي في طريقي بعزيمة وتصميم إلى بنك مصر في شارع طلعت حرب، يشاغل خيالي ذلك الخاطر الوطني الرومانسي أني أساهم في إنقاذ الاقتصاد الوطني ووقف انهيار العملة. تقول موظفة البنك: «ابقي غيّري من الصرافة أحسن..الفرق كبير»، وأرد: «ما عشان كده أنا جاية أغيّر من البنك». «ثواني..هأفكلك من تحت» ما الذي جعلني أثق في عامل التوصيل العجوز الأسمر وأمنحه ورقة بمائة جنيه، وأدعه يذهب بها؟ «عبيطة» أوبخ نفسي بعد أن مرت نصف ساعة دون أن يعود. ماذا أفعل الآن!؟ أنا المخطئة طبعا. كان يجب أن أخبره أن يذهب ويأتي بباقي الحساب أولا قبل أن أعطيه ورقة المائة جنيه. يمكن أن أتصل بمحل سيموندس وأخبرهم بأنه أخذ نقودي وذهب، وقال انه سيعود ولم يعد. سيعنفونه؟ أو ربما سيفصلونه من العمل. لا أريد أن أفصله من عمله حقيقةً. فقط أريد أربعين جنيها «باقي الحساب». ربما يحتاج الجنيهات الأربعين أكثر مما أحتاجها أنا؟ ربما سُرقت منه الجنيهات المائة؟ أو ضاعت! ربما يجب ألا أثق في عجوز أسمر بلا سبب! حين عاد مبتسما بعد نصف ساعة أو أكثر، قال: «آسف يا هانم إتأخرت عليكى». ابتسمت دون أن أقول شيئا. تابعته بعيني حين التفت ليمضي في طريقه -بعد أن احتفى بالجنيهات الخمسة التي منحتها له. حينها فقط لاحظت عرجا خفيفا يُبطىء من مشيته.