توقفت مليا أمام تصريح صبحي صالح لصحيفة لوس أنجلوس تايمز: الأولوية للاقتصاد ونحن مهتمون بحل مشكلات الفلاحين والمزارعين أكثر من محاربة البكيني والخمور! أولا هو تصريح يدل علي نضوج سياسي يمكن أن نلاحظه في أداء جماعة الإخوان المسلمين أخيرا, فالاقتصاد وحياة الناس ومعيشتهم لها الغلبة علي قضايا هامشية حاول البعض أن يشغل عقول المصريين بها في الفترة الأخيرة.. لكن أيضا لم أكن أود أن ترد كلمات من عينة (البكيني والخمور) في أي عبارة علي الإطلاق, ليس لا سمح الله- من باب الاعتراض علي محاربة البكيني والخمور, وإنما من باب المبدأ والمفاهيم, فلا أتصور أن البكيني شائع في مصر إلي هذه الدرجة, أو كانت له أولوية في حياة المصريات وأزيائهن في أي فترة تاريخية, لا في أيام الملكية ولا أيام الجمهورية, حتي في أفلام الأبيض والأسود وهي تستعرض حياة الطبقة الوسطي العليا أو الطبقة الارستقراطية علي شواطئ المصايف, لم يكن البكيني هو لباس البحر للنساء, مع أن أغلب أهل مصر وقتها كانوا مهذبين محترمين متحضرين لا يتحرشون بالنساء في الشوارع ولا يطاردون الفتيات علي الشواطئ! وحين ظهر البكيني في أفلام نهاية السبعينيات كان مبالغا فيه بشدة, وعكس ذوق نوعية جديدة من جمهور السينما, يملك المال دون حد أدني من الثقافة, نوعية صاحبت فترة الانفتاح الاقتصادي والهجرة إلي بلاد النفط, وما تلاها وصبغت مصر وفنونها بشهواتها الحسية وفراغ عقلها, من أول العري إلي قعدات الدخان الأزرق والتجارة في الصنف! لكنها لم تكن مصر..كانت فقط جانبا معتما منها..في فنها السينمائي ولم يتجاوزه إلي الواقع, وحتي النساء اللائي لبسن البكيني علي شواطئ خاصة أو مغلقة فلم يكن سوي فئة محدودة للغاية وخارج سياق الثقافة العامة للمصريين: رجالا ونساء, مسلمين ومسيحيين, فالمصريون لم يتخلوا عن دينهم أبدا, ولم يبتعدوا عن تعاليمه, خاصة في المظهر والشكل! والمصريات عموما إما محجبات أو منقبات لا سيما في الأوساط الريفية والشعبية, وهي أوساط تضم ما لا يقل عن 70% من سكان مصر, ولم تكن الملابس العارية أو المكشوفة شائعة أو متاحة لها في أي وقت من الأوقات, علي الأقل من الناحية الاقتصادية, فأغلب المصريين والمصريات لا يقدرون علي مسايرة الموضات الجديدة, لأنهم مهمومون بالستر ويجرون وراء لقمة العيش المراوغة طوال الوقت, ولا تخطر تلك الأزياء علي بالهم ولا يتصورون وجودها إلا وهم يتابعونها في أفلام السينما أو مسلسلات التليفزيون أو حفلات النجوم والنجمات المنقولة علي الهواء! وحتي أغلب المصريات المسيحيات لا يستهويهن العري في ملبسهن مطلقا بالرغم من عدم ستر شعورهن, وبعضهن متشددات جدا في الأزياء والتصرفات, لأن المجتمع المصري بطبعه محافظ ومتدين, ونساؤه محتشمات بحكم العادات والتقاليد والتراث الديني الغارق في القدم..إلا في القليل والنادر! وبالطبع الخمور ليست أمرا شائعا في مصر, لا الآن ولا فيما مضي.. وإذا كان الأمر كذلك, فلماذا أصلا ينشغل المجتمع بمحاربة البكيني والخمور وهما من المحدود النادر ويترك أحوال الناس اليومية وهي كثيرة وشائعة؟! قطعا..لا يجوز..حتي لا يهدر المجتمع طاقاته في مطاردة الأشباح وطواحين الهواء, تاركا حياة الناس تحت سياط الفقر وأنياب الحاجة وبلادة الخدمات العامة! فهل يمكن أن نغلق مثل هذه الملفات الرديئة ولا نضيع فيها وقتنا وتفكيرنا.. وهذا النوع من القضايا يشبه صناعة الفتن الوطنية تماما, كالفتنة بين الجيش والشعب, وبين المسلمين والمسيحيين, وبين الشرطة والجمهور, وبين الناس أنفسهم في أي مشكلة تأخذ شكلا عاما! لكن أخطر الفتن علي الإطلاق هي الفتن الدينية, فالدين طاقة ذرية, يمكن أن تستغل ويشكل منها المتربصون كتلة حرجة تنشطر كالقنبلة محرقة الأخضر واليابس, وأكثر الحروب دموية في تاريخ البشر هي الحروب الدينية, فكل طرف يقاتل وهو يتصور أن السماء تناصره وتشد من إذره فإذا كسب فقد حقق المشيئة الإلهية وإذا قتل فهو من الشهداء الأبرار له الجنة والنعيم المقيم..والمدهش في التاريخ الإنساني أن أغلب الحروب الدينية كانت سبيلا للسيطرة والاستعباد واقلها كان نبيلا ورائعا ودفاعا عن حقوق الإنسان في حياة كريمة حرة, فالأديان لا سبيل إلي العمل بها إلا من خلال البشر المكلفين برسالات السماء, لكن البشر بمرور الزمن تتنازعهم الأهواء والمصالح والأغراض والمكاسب والسطوة والسلطة, فينحرفون بالرسالة في تفسيرات قابلة للتصديق من البسطاء, فيعبرون عليهم إلي أهدافهم الخاصة. والدين أيضا طاقة نووية سلمية يمكن أن تنير حياة الناس وتبدد ظلمة نفوسهم وتفتح أمامهم أبواب الرقي الحضاري, بشرط أن يفهموا جوهر الرسالات السماوية وأنها جسر الإنسان إلي الحب الإلهي, الذي في داخله حب الإنسان للإنسان, فلا ضرر ولا ضرار, ودفع الضرر مقدم علي جلب المنفعة.. واستخدام تعبيرات من عينة البكيني والخمور والعري والفن الحرام والديمقراطية الفاسدة وهؤلاء كفرة, وهؤلاء لا دينيين.. ألخ, هي نوع من الفتنة الدينية, يجب أن يتوقف مروجوها عن التلفظ بها أو استعمالها أو اللعب بها علي أوتار البسطاء, فالوطن الآن في خطر, ربما هو الأكثر تهديدا لمصر في العصر الحديث منذ محمد علي, خطر يتضاءل أمامه الاحتلال البريطاني بعد ثورة عرابي, والاحتلال الإسرائيلي لسيناء بعد هزيمة 1967, فهذه أخطار لم تكسر إرادة الامة, ولم تهدد بنيانها النفسي والحضاري, وكان المصريون علي علم ودراية بما يريدون, حتي وهم لا يملكون وقتها أدوات درء هذه الأخطار, لكن وعيهم كان متيقظا ولم يفسده التشرذم والانقسامات والتناقضات, وهي عناصر تسللت إلينا حاليا وتحاول أن تسيطر علينا بشراسة مستغلة براءة البسطاء وحبهم لدينهم! وهذا هو منتهي الخطر! المزيد من مقالات نبيل عمر