ينظر الأوروبيون خاصة الشيوخ وبعض المثقفين إلي سنة1914 بطريقة خاصة, فيذكرهم هذا العام بحدث مهم, في الواقع من أهم الأحداث التي شكلت العالم الحديث. منذ مائة عام قامت الحرب العالمية الأولي, وكانت هذه المرة الأولي التي يستخدم فيها تعبير عالمية, لأن هذه الحرب التي يسميها الكثير من الفرنسيين حتي الآن الحرب الكبري امتدت إلي بقاع الأرض, ثم إنها استمرت فترة طويلة فعلا: من28 يوليو سنة1914 إلي11 سنة1918 أي أربعة أعوام وأربعة أشهر. ومن أجل كسب هذه الحرب من كل جانب تمت تعبئة نحو70 مليون رجل,60 مليونا منهم من الأوروبيين, وعندما توقف السلاح وانتهت الحرب بهزيمة ألمانيا وحلفائها, كان تدمير البنية التحتية في أوروبا كارثيا, وتم قتل ما لا يقل عن9 ملايين من المقاتلين, بالإضافة بالطبع إلي ملايين أكثر من الجرحي أصبحوا من المعاقين مدي الحياة. أجيال بكاملها تم القضاء عليها وكانت نتيجتها تدهور مكانة أوروبا بين قارات العالم, تفتتت إمبراطوريات واختفت أخريات, مثل الإمبراطورية العثمانية وما نتج عنها من دول جديدة في منطقتنا. ولذلك يقال إن الحرب العالمية الأولي شكلت نهاية حقبة أساسية في التاريخ العالمي القرن التاسع عشرة وبداية حقبة جديدة القرن العشرين. كان القرن التاسع عشر قرنا أوروبيا بمعني الكلمة وشعرنا به نحن في منطقتنا بسبب توسع أوروبا وسيطرتها علي الكثير من شعوبنا, أي التوسع الاستعماري سواء احتلال بريطانيا مصر والسودان وحتي منح فلسطين لليهود عن طريق وعد بلفور أثناء هذه الحرب, كما كان هناك التوسع الفرنسي في دول المغرب العربي. كان القرن التاسع عشر إذن وحتي بداية هذه الحرب قرنا أوروبيا بإمتياز يكشف سيطرة هذه القارة علي العالم. الحقبة التي أعقبت الحرب أي القرن العشرين أصبح قرنا أمريكيا, لأن التدمير والقتل كلف أوروبا وجعلها تخرج واهنة ومكسورة, فيما مهد الطريق للولايات المتحدة لأن تأخذ زمام المبادرة وتصبح قوة العالم الأعظم, ولذلك يطلق علي القرن العشرين القرن الأمريكي, وفي الواقع يتفق الأمريكيون والأوروبيون علي أن هذه الحرب العالمية الأولي غيرت وبشكل رئيسي موازين القوي العالمية وعلي مستوي القارات. في الحقيقة عندما نقرأ بعض المذكرات التي كتبت بعد هذه الحرب العالمية الأولي مباشرة, نلاحظ صدمة الأوروبيين من الدمار الذي أصاب بلادهم, وكذلك الوحشية التي تخللت هذه الحرب, ولذلك كان هناك رأي عام أوروبي وعالمي قوي باتخاذ كل الوسائل لمنع تكرار هذه المجزرة العالمية. ومن أجل المحافظة علي الحضارة العالمية ولكي تكون هذه الحرب الوحشية آخر الحروب, ثم التفكير في وسيلتين: 1 إنشاء منظمة دولية, حيث تجتمع الدول وتناقش أمورها لكي تمنع من أن تتحول الخلافات إلي مشكلات مستعصية وأزمات لا يمكن مواجهتها إلا عن طريق رفع السلاح والتدمير, ومن هنا تم إنشاء عصبة الأمم ومقرها جنيف, والتي لا تزال مبانيها تشكل المقر الأوروبي للأمم المتحدة. 2 الوسيلة الثانية, والتي هي غير معروفة نسبيا هو القرار بتعريف الناس العاديين وخاصة الشباب بالتحديات الدولية وكوارث الحروب. ومن هنا الاهتمام بإنشاء هيئات علمية وكراسي خاصة بدراسة العلاقات الدولية. كان أول كرسي متخصص في العلاقات الدولية في جامعة أبريتويث بمقاطعة ويلز بإنجلترا تحت رئاسة المؤرخ العالمي د. ه. كار. أما المؤسسة الأخري فهي إنشاء المعهد الدولي للدراسات الدولية العليا في جنيف بجانب عصبة الأمم والتي تتم فيه الدراسة حتي الآن باللغتين الفرنسية والإنجليزية في نفس الوقت, وتخرج فيه بعض كبار النخبة العلمية والدبلوماسية المصرية, وكان من قمة أساتذته حتي وقت قريب أستاذ القانون والمنظمات الدولية المرموق جورج أبي صعب, الذي يفخر دائما بمصريته. كان الاهتمام بهذه الوسيلة الثانية إنعكاسا لرغبة من أن يتم دراسة وممارسة العلاقات الدولية علي أساس علمي, وليس علي أنها ارتجال وفهلوة وعشوائية. أحد أهم نتائج الحرب العالمية الأولي التي أسست أيضا لعالم جديد هو ظهور القوميات لهزيمة الاستعمار بعد أن ظهر للعيان خلال الحرب أن الأوروبيين بشر, وليسوا آلهة, بل بشر ضعفاء يمكن هزيمتهم, وما قيام ثورة سنة1919 ورغبة سعد زغلول وزملائه في التوجه إلي عصبة الأمم إلا إنعكاسا لهذه الثقة بالنفس ومحاولة الندية مع السلطات الاستعمارية. لقد تغير العالم فعلا. لمزيد من مقالات د.بهجت قرني