كانت السياسة وليس الدين السبب الرئيسي للاهتمام بالمنابر في تاريخ مصرالمعاصر. فقد دخلت المنابر عصورا طويلة من الغيبوبة والاغتراب عن حياة الناس في مصر كما في غيرها من بلدان العالم الإسلامي. وباستثناء المساجد الكبري التي يرتادها الحكام والمصريون في أوقات الأزمات مثل الجامع الأزهر أثناء الحملة الفرنسية وثورة1919, كانت المنابر قد فقدت صلتها بحياة الناس ولغتهم. وجلس المصريون زمنا طويلا إلي منابر يعتليها خطباء يقرأون عليهم خطبا كتبت وألقيت منذ مئات السنين وكانت تعالج قضايا عمرها من عمر هذه الخطب ذاتها وبلغة لم تكن مفهومة من عموم الناس.. وكانت المنابر أكثر ميلا إلي الحط من قيمة الحياة الدنيا فدفعت الناس إلي حب الفقر والعوز. ولقرون عديدة اختفي المحتوي السياسي للخطب المنبرية باستثناء الدعاء للخليفة العثماني تعبيرا عن ولاء الخطيب وجماعة المسلمين للخليفة. ولسنا نعرف علي وجه التحديد متي توقف الدعاء لخليفة العثمانيين.فحتي خمسينيات القرن الماضي كان بعض الخطباء المصريين يدعون علي المنابر لسلطان العثمانيين الذي زالت دولته قبل ثلاثين عاما من هذا الدعاء. وتكرر الأمر ذاته مع الملك فؤاد لسنوات طويلة بعد زوال الأسرة العلوية مع ثورة يوليو. وقد انتبهت الحكومة المصرية لأهمية المنبر في أربعينيات القرن الماضي بسبب تنامي نشاط الإخوان المسلمين واستخدامهم المكثف للمنبر في نشر دعوتهم. وكانت أسبابهم وأهدافهم سياسية أكثر منها دينية. فقد أراد الإخوان استخدامه في توحيد صياغة الوجدان الديني والاجتماعي والسياسي للأعداد المتزايدة من المنتمين لتلك الجماعة قبل الثورة وفق فكر الجماعة وخططها. وهم أول من قام بتوحيد الخطب علي المنابر التابعة لهم حتي تصل الرسالة الواحدة إلي أعداد غفيرة من الناس. وقد تمكنت تلك الجماعة من زيادة أعضائها في طول البلاد وعرضها بسبب سيطرتها علي الكثير من المنابر وتوحيد خطابها الديني ذي المضمون الاجتماعي والسياسي في ظل تعثر التجربة الليبرالية واضطراب الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مصر آنذاك. وقبل ثورة يوليو كان المنبر موزعا في اهتماماته بين دعوة الإخوان بأبعادها الاجتماعية والسياسية في المساجد والزوايا التابعة لهم, وبين القضايا الدينية التقليدية ذات النزعة الصوفية أو السلفية في لغتها ومضمونها في عموم مساجد مصر. وانصرف جهد حكومات ما قبل ثورة يوليو إلي استخدام المنبر في المساجد الكبري التابعة لها في تأكيد الولاء لسلطة الملك والرضا بما قدره الله لكل فرد من الرزق والمكانة الاجتماعية وتقديس الملكية. كل ذلك حتي يعلم الناس أن الفوارق بين الناس قدر من الله لا مفر منه. وما بين هذين الاتجاهين ظهرت دعوات منبرية تنتقد الأوضاع الاجتماعية لعموم المصريين وانتشار الفقر بينهم. وخلال السنوات الأولي من حكم ثورة يوليو لم يطرأ الكثير من التغيير علي أوضاع المنبر وإن كان المحتوي السياسي قد بدأ في الظهور بحكم التغييرات التي طرأت علي البنية السياسية المصرية. وبقدر ما يمثل عام1954 من أهمية في تاريخ مصر فإنه يمثل الشيء نفسه في تاريخ المنبر. فقد وضع الصراع بين الإخوان ومجلس قيادة الثورة المنبر من الناحية السياسية في دائرة اهتمام غير مسبوق. كان الإخوان هم القوة الأبرز علي الساحة السياسية في وقت تراجع دور الأزهر تراجعا حادا. وبدا المنبر هو وسيلة التعبير السياسية الأساسية في الصراع بين الإخوان وقادة مصر الجدد. وفي سبتمبر1954 انتقد خطيب مسجد السيد البدوي الحكومة لعدم تطبيق الشريعة وأنها لاتسير وفق أحكام القرآن مما أدي إلي حدوث اضطرابات واشتباكات بين جماعة من الإخوان والحرس الوطني أسفرت عن جرح أربعة أشخاص. وبعد يومين أصدر وزير الأوقاف قرارا بتوحيد موضوع خطبة الجمعة وحظر التطرق إلي موضوعات ذات طابع جدلي سواء أكانت دينية أم اجتماعية وتم وضع عقوبات رادعة للمخالفين. وفي عام1960 صدر قانون يقضي بإخضاع المساجد لإشراف وزارة الأوقاف ولكن هذا القانون لم يعمل به إلا في عام1973 بناء علي توصيات لجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس الشعب للنظر في أحداث الفتنة الطائفية عام.1972 وفي ذلك العام وصل عدد المساجد التي تم ضمها لوزارة الأوقاف إلي اربعة آلاف مسجد ولكن نحو15 الف مسجد وآلاف أخري من الزوايا ظلت بعيدة عن إشراف الوزارة. وقد تحول الكثير منها إلي مراكز للمعارضة في عهد الرئيس السادات والرئيس مبارك من بعده. ومع حل جماعة الإخوان في أكتوبر54 انتبهت الحكومة في مصر أكثر لأهمية المنبر. ولقيت في ذلك دعما هائلا من علماء الأزهر. فتم اتخاذ الكثير من الخطوات لتوظيف المنبر في خطط التنمية التالية وخلال سنوات عديدة تحول المنبر من وسيلة تعاني غيبوبة وانفصالا تاما عن حياة الناس إلي رافد له أهميته في إعداد الشخصية المصرية لبرامج التنمية وإحداث التحولات الاجتماعية الهائلة التي شهدتها مصر خلال السنوات العشر التالية. والحقيقة هي أن استخدام عبد الناصر للمنبر جر عليه الكثير من انتقادات الكثيرين فيما بعد ولكن هذا الاستخدام لم يجد من ينصفه بما أحدثه من تطور إيجابي في الوجدان الديني المصري وترشيد استخدام العاطفة والمعرفة الدينية لتكون قوة تضاف إلي قوي التنمية في البلاد. بل إن كثيرين عدلوا عن انتقادهم حين أفلت الزمام من الجميع وأصبح المنبر في كثير من الأحيان أحد محركات التغيير التي تدور إلي الخلف وهو ما سوف نتعرض له في مقالنا القادم. لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين