فقدنا جميعا قبل أسيوع واحد(18 ديسمبر) قامة أكاديمية كبيرة لم تحظي باهتمام الباحثين العرب والمصريين, إنه عبد الحميد صبره أستاذ تاريخ العلوم المتقاعد بجامعة هارفارد بالولاياتالمتحدةالأمريكية, الذي توفي هناك عن عمر يناهز الثالثة والثمانين. عرف عبد الحميد صبره في الغرب كمؤرخ وفيلسوف للعلم, وخاصة العلوم العربية, حيث وضع العديد من المؤلفات والترجمات باللغتين العربية والإنجليزية, فضلا عن تحقيقاته الرائدة في التراث العلمي العربي بحيث تمثل هذه المؤلفات أساس رصين لأجيال جديدة من مؤرخي العلم تساعدهم علي فهم التراث العلمي العربي فهما صحيحا بعيدا عن النزعة التراثية التي تتغني بالماضي, وتلك التي لاتجد أي إبداع قدمه العقل العربي. من جهة أخري لا يكاد يوجد كتاب عن الحضارة العربية والإسلامية أو عن تاريخ العلوم العربية باللغات الأجنبية علي اختلافها, إلا ونجد عبد الحميد صبره حاضرا بمؤلفاته وأفكاره, وكان لكاتب هذه السطور الشرف أن تواصلت معه عبر البريد الإلكتروني لفترة ليست بالقصيرة عندما كنت أعد دراسة عن منهجه في التأريخ للعلم العربي ومحاولته إيجاد فلسفة لهذا العلم تقوم علي التشديد علي مركزية العلم العربي, أو خصوصيته. ومن لم يعرف حياة عبد الحميد صبره المليئة بالأحداث والتحولات الفكرية والأكاديمية نقول, بأنه درس الفلسفة في جامعة الإسكندرية وتخرج في عام1947, ثم أرسل في بعثة دراسية للمملكة المتحدة حيث درس تحت إشراف الفيلسوف النمساوي الأصل الانجليزي الجنسية كارل بوبر وذلك في كلية لندن للاقتصاد. كان لكارل بوبر تأثير كبير علي تحول عبد الحميد صبره من الفلسفة إلي فلسفة العلوم بعدما أستمع إلي محاضرة ألقاها كارل بوبر عن ألبرت آينشتين. حصل عبد الحميد صبره علي الدكتوراه عام1952 في موضوع البصريات في القرن السابع عشر, وكانت قصة اختياره لهذا الموضوع تعود إلي اللقاء الذي جمعه مع مؤرخ العلم الفرنسي الشهير ألكسندر كوريه في أحد الفنادق الصغيرة بالقرب من المتحف الإنجليزي بلندن, حيث تحدثا معا حول إسحاق نيوتن والثورة العلمية, عندئذ ابتسم كواريه له وقال: إذا بقيت في القرن السابع عشر فلن تستطيع مغادرته, في إشارة منه بضرورة تجاوز عبد الحميد صبره, طالب الدكتوراه وقتئذ, لهذا التاريخ بحيث لا يقضي وقتا طويلا في دراسة حقبة تاريخية واحدة فقط دون اعتبار للحقب التاريخية العلمية المختلفة, لأن الباحث عندما يعكف علي دراسة حقبة علمية ما في تاريخ العلم يعتقد أنها أفضل الحقب علي الإطلاق, وأنها أصدق تعبير علي التقدم العلمي. لقد أدرك عبد الحميد صبره مغزي هذه الكلمات, فانتبه إلي العلم في العالم العربي وقضي ما تبقي من عمره في إعادة النظر في مفهوم الثورة العلمية الذي جعلنا الغرب نعتقد أنه مفهوم غربي المنشأ والتطور. بعد حصول عبد الحميد صبره علي درجة الدكتوراه عاد إلي جامعة الإسكندرية ليعمل محاضرا ثم أستاذا مساعدا في قسم الفلسفة بكلية الآداب, ولكنه عاد مرة أخري في ستينيات القرن العشرين إلي لندن حيث التحق بمعهد فاربورج التابع لجامعة لندن حيث قضي عشر سنوات من1962 إلي1972 يدرس تاريخ العصور الكلاسيكية القديمة في الفلسفة والعلم, ثم انتقل في عام1972 إلي جامعة هارفارد بالولاياتالمتحدةالأمريكية حيث عمل هناك أستاذا لتاريخ العلوم العربية حتي عام1996 وهو تاريخ التقاعد. ساهم عبد الحميد صبره بنصيب كبير في ترجمة بعض المؤلفات التي أسهمت في الحياة الثقافية في الغرب إلي اللغة العربية, منها كتاب كارل بوبر' عقم المذهب التاريخي' وذلك عام1959, وكانت هذا الترجمة هي أول اتصال مباشر بين كارل بوبر والعالم العربي. كما ترجم كتاب لوكاشفيتش' نظرية القياس الأرسطية من وجهة نظر المنطق الصوري الحديث' عام1961, إلا أن أعماله في تاريخ العلوم عند العرب وتحقيقاته لمختلف كتب التراث العلمي العربي وخاصة كتابات الحسن بن الهيثم وترجمة بعضها إلي اللغة الانجليزية, تظل علامة بارزة أضاءت للعديد من الباحثين غربا وشرقا, الطريق إلي فهم تاريخ العلم بوجه عام وتاريخ العلوم العربية علي وجه الخصوص, بحيث وجدوا ضالتهم وأعادوا اكتشاف حقيقة ساطعة وهي أن العقل الإنساني بما هو إنساني هو الذي أبدع العلم, وهو الذي رسم معالم وأحداث تاريخ العلم ذاته. لهذا ليس غريبا أن نجد عبد الحميد صبره يؤكد في كتاباته أن دراسة تاريخ العلم لا تتم بمعزل عن السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تساهم في تقدم العلم والتفكير العلمي, أو تؤدي إلي تدهور العلم وسيادة الخرافة واللامعقول. ومن جهة أخري يلفت رائد دراسات تاريخ العلوم عند العرب نظر الباحثين إلي ضرورة النظر إلي كل انجاز علمي عربي علي حدة نظرا للظروف والملابسات والمعطيات المتغايرة من حقبة زمنية إلي أخري. حصل عبد الحميد صبرا علي العديد من الجوائز والأوسمة لعل أبرزها وسام جورج سارتون الذي ناله من جمعية تاريخ العلوم عام2005, وهو المصري والعربي الوحيد الذي نال هذا الوسام في تاريخ هذه الجمعية منذ عام1955 وحتي الآن, وفي حيثيات منح هذا الوسام نقرأ تلك العبارات التي تعبر عن المكانة الكبيرة التي نالها عبد الحميد صبره علي المستوي العالمي الأكاديمي,' إن تواصل عبد الحميد صبره مع الباحثين الشبان من خلال محاضراته في قاعات الدرس, وكرمه الذي لا ينضب ونصائحه الدافئة لكل من طلب المساعدة, سواء تم هذا في مصر, أو في المملكة المتحدة, أو في الولاياتالمتحدةالأمريكية, فقد أيدت جمعية تاريخ العلوم المستوي الرفيع لأعمال صبره التاريخية وغناها الأمر الذي يجعل هذه الأعمال تستحق عن جدارة وسام سارتون' ونحن بدورنا نقول أن الوسام الحقيقي الذي نقدمه لعبد الحميد صبره هو أن نعيد النظر في السبل التي أدت وتؤدي دوما إلي تقدم العلم حتي نخرج من سباتنا الثقافي والعلمي. لمزيد من مقالات د. خالد قطب