هل قدر إرث ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر في الشرق الأوسط علي نحو خاص أن يأتي باراك أوباما ليبدده؟ لا يمكن التفكير في ملامح السياسات الخارجية الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين, دون النظر والاعتبار للدور الدبلوماسي الذي أسهم به كيسنجر في ترتيب أوراق أمريكا الإمبراطورية البازغة رغم المأزق الفيتنامي أدبيا وعسكريا, ومع التحديات التي فرضتها الحرب الباردة بشكل عام, فقد أعاد الرجل صياغة السياسة الخارجية الأمريكية, وبلور الاستراتيجية العظمي لواشنطن بأسلوب قوي وقابل للاستمرار. ولعل الباحث المحقق والمدقق في شأن الشرق الأوسط يستطيع أن يرصد كيف كان وزير خارجية أمريكا الألماني الجذور هو مفتاح التغيرات الجذرية التي جرت بها المقادير في المنطقة, بدءا من رحلات أسوان المكوكية, وصولا إلي اختصاصه من قبل الرئيس المصري الراحل أنور السادات بلقب صديقي كيسنجر. والشاهد أن وجهات النظر تنقسم من حول الرجل ففيما يذهب البعض إلي أنه كان واقعيا وكانت علاقته بالسلطة ميكافيلية وبسماركية, وبالتالي وضع المصالح الأمريكية في الصدارة وأي شيء آخر في مرتبة تالية, يري آخرون أنه كان مثاليا, وكان برنامجه لإعادة بناء الاستراتيجية الأمريكية يعتمد علي العناصر الأخلاقية القوية. مهما يكن من أمر فإن إرث الرجل الناجح شرق أوسطيا يكاد اليوم يضيع من جراء توجهات سياسات أوباما, والمثير للخوف أن الأمر لا يرتب خسائر أدبية أو مادية لأمريكا ومصالحها في المنطقة وحسب, بل يشعل المنطقة, ويتركها عرضة لأقدار مأساوية, ونهبا لصراعات دموية في الحال والاستقبال. خذ إليك علي سبيل المقاربة وضع مصر بين توجهات كيسنجر ومآلات أحوالها في العهد الأوبامي غير السعيد. نشأت العلاقات بين واشنطن والقاهرة في صورتها التصالحية والتسامحية من خلال كيسنجر الذي أطلق مبادرة دبلوماسية بين مصر وإسرائيل أسفرت عن توقيع اتفاق سلام تاريخي في عام1979, وقد أصبحت واشنطن شريكا لا غني عنه لكل من إسرائيل ومصر. وقبل أقل من عامين علي رحيل باراك أوباما تتدهور العلاقات بين مصر والولاياتالمتحدةالأمريكية, وتصل حدا غير مسبوق طوال العقود الثلاثة الماضية, ولا نظير له إلا في الأجواء التي سادت البلاد إثر هزيمة العام1967, شعبويا ونخبويا,. أين أخطا أوباما في مصر وفي غيرها من دول الشرق الأوسط, لاسيما تلك التي عرفت ظاهرة الربيع العربي المختلف علي هويتها ومدي وطنيتها وملاءمتها لصالح دول المنطقة وشعوبها؟ مؤخرا وصف كيسنجر الداء الأوبامي عندما أعتبر: أن مشكلة إدارته علي مستوي الخارجية أنها ماهرة في التعامل مع الجوانب الفنية, لكنها عاجزة عن وضع استراتيجية مستقبلية ذات أهداف محددة ومضيفا.. لا أظن أنه يوجد من يضع ثقته بشكل كبير في سياسات أوباما الخارجية أو يدرك أهدافها بوضوح. ذات مرة في تسعينات القرن المنصرم قال الرئيس الأمريكي بيل كلينتون أن الولاياتالمتحدةالأمريكية هي البلد الذي لا يمكن للعالم أن يستغني عنه, لقدرتها علي حلحلة الإشكاليات العالقة وإنهاء الأزمات وتقديم يد العون بطريقة لا يمكن لبلد آخر أن يفعله... هل يستقيم هذا الوصف علي أمريكا اليوم؟ بالقطع لا, إذ تبدو في أضعف حالاتها خارجيا, وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تحولت فيها سياساتها من خطط ترسم وغايات تدرك واستراتيجيات تسخر, إلي خطابات بلاغية وفورات عاطفية لحظية, كما حدث ويحدث في مصر, أو امتناع عن لعب أي دور لإنهاء المجازر كما في سوريا. يتساءل المرء بشكل عابر, هل كان هذا الفشل وراء السعي الأمريكي الحثيث للتوصل إلي إرهاصات اتفاقية مع إيران, لتحسين صورة أوباما داخليا وقبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس, وحتي لا يصاب الديمقراطيون في مقتل جراء الحصاد الفاشل لسياسات أوباما داخليا وخارجيا, حتي وإن كان ثمن هذه الاتفاقية تنازلات أمريكية ومكاسب إيرانية؟ اتفاق جنيف قضية مشهد من مشاهد ارتباك الدور الأمريكي الذي شبهه رئيس وزراء روسيا ديمتري ميدفيد مؤخرا بأنه يشبه دخول ثور في سوق للخزف الصيني وعنده أن أمريكا اليوم غاليا ما تدفع دولا بأكملها لنقطة اللاعودة التي يصعب للغاية بعدها إقناع الأطراف المتصارعة بمحاولة التفاوض.. إنهم يضغطون ويحطمون كل شيء, ثم لا يعرفون ماذا يفعلون بعد ذلك. هل أشعل الأمريكيون الشرق الأوسط أخيرا وهم عازمون علي الرحيل, وليكتب الشرق أوسطيين ما شاء لهم من كتابات المراثي والبكائيات علي الأطلال؟ في زمن هنري كيسنجر كرست الولاياتالمتحدة الكثير من جهودها الدبلوماسية في المنطقة من أجل تخفيف التوترات بين العرب والإسرائيليين, وأحرزت نجاحا تمثل في معاهدة كامب ديفيد مهما اتفق أو افترق من حولها بالشرق الأوسط. لمزيد من مقالات اميل أمين