إن الذي بلغ التسعين من عمره مثلما يفتقد أشياء كثيرة عاصرها وعاشها وباتت راسخة في ذاكرته لا تبرحها. فهو يفتقد أحاديث الأربعاء التي كان طه حسين ينشرها أسبوعيا, ويفتقد حكمة حمار الحكيم التي كان يسوقها توفيق الحكيم علي لسان حماره, ويفتقد اليوميات البصيرة لسلامة موسي ويفتقد المقالات النقدية التي كان سيد قطب ينشرها في مجلة الرسالة ويفتقد باب الكتب الذي كانت تحرره الدكتورة بنت الشاطئ في جريدة الأهرام, ويفتقد مناوشات زكي مبارك التي لم يسلم منها معاصروه. كما يفتقد مجلات رائدة اختفت في أوقات متقاربة مثل مجلة المقتطف التي عمرت77 عاما ومجلة الرسالة التي عاشت20 عاما ومجلة الثقافة التي عاشت15 عاما, ومجلة التربية الحديثة التي عاشت42 عاما ومجلة أبولو التي عاشت3 سنين ومجلة الكاتب المصري التي عاشت ثلاث سنين ومجلة الكتاب التي عاشت5 سنين. ويفتقد كذلك الندوات التي شهدت بعضها مثل ندوة المقتطف وندوة الزيات في مجلة الرسالة وندوة نجيب محفوظ وندوة العقاد وندوة سلامة موسي وأيضا الندوات التي لم أشهدها مثل ندوة الآنسة مي التي تابعت أخبارها من بعض روادها. ويتذكر أسماء لآدباء كبار باتت اليوم في النسيان مثل الروائي أمين يوسف غراب والروائي محمد عبدالحليم عبدالله والقاص محمود البدوي والأديبين الكبيرين إبراهيم عبدالقادر المازني وإبراهيم المصري. ويفتقد مقالات الصور الافتتاحية التي كان ينشرها محمد توفيق دياب في جريدة الجهاد وعبدالقادر حمزة في جريدة البلاغ وخليل ثابت في جريدة المقطم وأنطون الجميل في جريدة الأهرام وكان بعض هذه المقالات ينشر بغير توقيع. أشياء كثيرة في حياتنا الأدبية والفكرية يفتقدها أمثالنا الذين عاصروها حتي وإن لم يكونوا من الضالعين فيها والمتأمل لحياتنا الثقافية اليوم يدرك تماما أن كل هذه الأشياء التي افتقدناها لن تعود, فهي تمثل عصرا وضع أوزاره وذهب بلا عودة. كنت في شبابي أتوجه إلي وزارة المعارف العمومية فأصادف غرفة تحمل لافتة مكتوبا عليها إدارة الثقافة فإذا دخلتها دون استئذان لأنها مفتوحة الأبواب علي مصاريعها صادفت أعلاما كبارا يعملون فيها منهم محمد فريد أبو حديد وإبراهيم زكي خورشيد والمترجم محمد بدران والمترجم فؤاد اندراوس والأديب علي آدهم والأديب سيد قطب هذه الغرفة الصغيرة هي نواة وزارة الثقافة في يومنا الحاضر بعدما أصبحت الوزارة جزءا من التشكيل الوزاري, وأصبحت لها أجهزة إدارية وبيروقراطية, وفنية متشعبة وغدا العاملون فيها يعدون بالآلاف دون أن يكونوا جميعا من المتخصصين في الأدب والعلم أو الفن وإنما هم موظفون لا يختلفون كثيرا عن موظفي أي وزارة أخري في الدولة. ولئن عشت طول عمري بعيدا عن الجهاز الحكومي وأصبحت لا أعرف مداخله ومخارجه, فإن هذا لا يحول دون متابعة أنشطة الوزارة من واقع ما تنشره الصحف. والوزارة لا تمثل اتجاها أدبيا بعينه, فالمفروض أن تحتضن جميع الاتجاهات الفكرية بعدما تعددت مذاهب الأدب والفكر من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار, وبعدما كثرت لجان الوزارة المعهود إليها في رعاية جميع الأنشطة الثقافية في البلاد, ولأنني مجرد مراقب أو متفرج علي أنشطة الوزارة دون أن تكون لي في أي وقت مشاركة في وظائفها أو في لجانها, فلا بأس من أن أسوق بعض الملاحظات العابرة عسي أن تكون فيها فائدة. أولا: اعتقد أن الوظيفة الأساسية لوزارة الثقافة هي وظيفة ثقافية لا سياسية, بمعني أن الوزارة ينبغي أن تكون مستقلة تماما عن أي اتجاهات سياسية تنحاز إليها الدولة, أي أن تحافظ الوزارة علي استقلالها وأن تنحاز دائما لحرية الفكر. ثانيا: أن تحتشد الوزارة للذود عن أي أديب أو مفكر إذا ما تعترض لمساءلة من جانب أجهزة الدولة اعتراضا علي آرائه أو نشاطه الفكري, وأن يكون لها دور فعال في الرعاية الاجتماعية لأموال المثقفين. ثالثا: أن تتوخي الحيدة الثقافية التامة في الحكم علي الأعمال الأدبية المرشحة لجوائز الدولة بحيث تصيب الجوائز من يستحقونها بجدارة وليس لغيرهم مهما تكن صفتهم الوظيفية أو المجتمعية. رابعا: أن يراعي في اختيار المشاركين في المهرجانات أو الوفود أن يكونوا خير من يمثلون بلادهم سواء من حيث مؤهلاتهم أو من حيث شخصياتهم. خامسا: إن المفروض في الوزارة أن تضطلع بالأعمال التي لا يستطيع الأفراد القيام بها مثل وضع الموسوعات والمعاجم المتخصصة والسجلات الثقافية. سادسا: ألا تتخلي الوزارة عن رعاية الأندية والتجمعات الثقافية مثل رابطة الأدب الحديث وورشة الزيتون وفي الأقاليم كذلك, حتي لا تشعر هذه الجمعيات بأنها كاليتيم الذي لا راعي له. سابعا: أن يراعي في تنظيم معارض الكتب أن تكون مفتوحة علي جميع تيارات الفكر بحيث لا تقتصر علي اتجاه معين, وإن كنت لا أري بأسا في التعقيم بحيث لا تتسلل إلي المعارض اتجاهات تحمل رسالة تقويض دعائم المجتمع. ثامنا: في اعتقادي أن الرسالة الأساسية لوزارة الثقافة تتمثل في الانتصار لكل ما من شأنه رفعة الإنسان عقليا وذهنيا واجتماعيا, فالوزارة ينبغي أن تكون أشبه بالجامعة العريضة المفتوحة التي يجد فيها الناس مجالا لإشباع رؤاهم. تاسعا: إن تشعر الوزارة جميع المفكرين والأدباء والشعراء بأنها بيتهم الرحيب الذي يتكفل برعايتهم في حالة العسر أو إذا ما تجهمت لهم أسباب الحياة. عاشرا: إن تصغي لكل ما يوجه إليه من انتقادات وألا تحاول تلافي أسباب هذه الانتقادات إن كانت معقولة. حادي عشر: أن تكون الوزارة وزارة شاملة جامعة لكل المشتغلين بالآداب والفنون أو العلوم أو الثقافة, فهي وزارة للجميع وليست وزارة للعاملين فيها وحدهم, أي أن رسالة الوزارة تتجاوز هيكلها الإداري وتنفتح علي كل ما يتصل بالثقافة بسبب. تلك ملاحظات أوحي بها الخاطر وعسي أن تلقي آذانا صاغية لأنها إنما تضمر الخير لكل العاملين في سبيل رفعة الثقافة ونهضتها. كاتب المقال: أقدم خريجي معهد الصحافة بالجامعة الأمريكية وأقدم أساتذته الأب الروحي سابقا لمركز الأهرام للترجمة والأدب الروحي حاليا لرابطة الأدب الحديث أسس مع الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي رابطة الأدباء واستمرت8 سنين.