قام كاليف ليتارو خبير تحليل الإعلام الرقمي بجامعة إلينوي بالولاياتالمتحدة بتجميع ما يزيد عن100 مليون خبر وتقرير صحفي من أرشيف الحكومة الأمريكية وشبكة بي بي سي وصحيفة نيويورك تايمز تتعلق بالأوضاع الداخلية في معظم دول العالم في الفترة من1945 حتي.2011. وباستخدام برامج للتحليل الآلي للنصوص قام بتصنيف هذه الأخبار حسب معيارين: الأول' نغمة الخبر', لتحديد إذا كان الخبر يعكس وضعا سلبيا أو إيجابيا, والثاني' مكان الخبر' لتحديد الدولة التي يتناولها الخبر. واستنادا إلي مخرجات التحليل قام ليتارو برسم منحني زمني لكل دولة يبين التطور التاريخي للنغمة السائدة, سلبية كان أم إيجابية, في الأخبار التي تتعلق بهذه الدولة. وكانت مصر من بين الدول محل الدراسة, فطبق مهنجه علي حوالي53 ألف خبر عن مصر في الفترة من يناير1979 حتي مارس2011, ووجد أن نتائج تحليل هذه الأخبار تشير إلي أن الأوضاع في مصر وصلت إلي أسوأ حالاتها في الشهر الذي سبق تنحي مبارك, وأن هذا لم يحدث في مصر غير مرتين فقط في الثلاثين عاما الماضية, الأولي في1991 م عندما قام صدام بغزو الكويت, والثانية في2003 م عندما قامت الولاياتالمتحدة بغزو العراق. ويقول ليتارو أن نتائج التقييم الآلي الذي قدمه للأوضاع في مصر كانت أدق وأقرب للواقع من التقييم الذي قدمته المخابرات الأمريكية لصناع القرار في البيت الأبيض, وأن مساندة أوباما لنظام مبارك حتي آخر لحظة تعني أن هذا التقييم المخابراتي كان يؤكد للإدارة الأمريكية قدرة مبارك علي البقاء رغم سوء الأوضاع والاحتجاجات المتكررة لأن تحليلات المخابرات للأوضاع في مصر في الثلاثين سنة الماضية تقول بأن هذا طبيعي' ولن يحدث شئ لمبارك'. وطبق ليتارو نفس المنهج لدراسة تونس وليبيا وسوريا والبحرين والسعودية. صحيح أن دراسة ليتارو تفقد كثيرا من قيمتها المباشرة لأنها جاءت مباشرة بعد ثورتي تونس ومصر وأثناء الاحتجاجات علي نظام القذافي في ليبيا في2011 وليس قبلها, وبالتالي فهي دراسة لما حدث بالفعل وليس تنبوءا به, لكن لهذه التحليلات أهمية نظرية وتطبيقية كبيرة تأتي من أنها أول تطبيق عملي بهذا الحجم ومن هذا النوع لعلم جديد ظهر في2010 هو.(Culturomics) والذي يمكن ترجمته ب' الحوسبة الثقافية, نتيجة تعاون بين باحثين وأساتذة للعلوم الإنسانية والاجتماعية في عدد من الجامعات الأمريكية وباحثين ومبرمجين في جوجل. والهدف الأساسي لهذا العلم هو دراسة التطور التاريخي للسلوك البشري والاتجاهات الثقافية واللغوية عبر العصور المتتالية من خلال التحليل الكمي لملايين النصوص التي' ولدت رقمية' أو التي تم تحويلها إلي صورة رقمية من كتب ومقالات وأخبار وغيرها. وهذا العلم يقول بأن النصوص التي ينتجها مجتمع ما في عصر ما تعكس جوانب كثيرة للأوضاع الثقافية والفكرية والمعرفية والاجتماعية لهذا المجتمع في هذا العصر, وأنه يمكن الوصول إلي هذه المعرفة من خلال التحليل( الآلي) للغة المستخدمة في عدد كبير من هذه النصوص( كلها إن أمكن), باعتبار أن اللغة وعاء لجوانب كثيرة من المعرفة الإنسانية. باختصار يمكن القول بأن هذا العلم يحاول قياس الثقافة الإنسانية وتطوراتها عبر السنين. وأهمية دراسة ليتارو ترجع إلي أنها عززت القدرة التحليلية لهذا العلم من خلال إثراء أدواته ببرمجيات التحليل الآلي للنصوص بهدف تحديد اتجاه المشاعر والعواطف التي تعكسها هذه النصوص من حيث كونها سلبية أو إيجابية, وإمكانية استخدام ذلك في المتابعة المستمرة لتذبذبات المزاج العام في بلد ما, وإلي أنها لفتت الانتباه إلي أنه بالإضافة إلي استخدام' الحوسبة الثقافية' في التأريخ لما كان, يمكن كذلك استخدامها في المتابعة اللحظية لما يجري وخاصة مع التدفق المعلوماتي الذي لا يتوقف من شبكات التواصل الاجتماعي وملايين التعليقات علي الأخبار, وأيضا في التنبوء بما سوف يكون. وفي ضوء الاتنقادات الحادة لمنظومة المخابرات الأمريكية بعد فشلها في التنبوء بالتغيرات الجذرية والمفاجئة في المنطقة العربية, كان طبيعيا أن يكون السؤال الطاغي في هذا السياق: هل يمكن التنبوء بالثورات مثل التنبؤ بالطقس؟ وهل يمكن معرفة زمان ومكان الثورة القادمة قبل وقوعها؟ السؤال ليس جديدا, فهناك باحثون في العلوم السياسية مهتمون بالنماذج الرياضية التي تحلل الصراعات والاضطرابات السياسية في مناطق مختلفة من العالم, وهناك أيضا تقارير دورية لصندوق النقد الدولي تربط الارتفاع في أسعار المواد الغذائية بزيادة الاحتجاجات والاضطرابات والتي جاء في أحدها مثلا أن زيادة في الأسعار العالمية للغذاء بنسبة10% تقابلها زيادة بنسبة100% في السخط الشعبي علي الحكومات, وأنه مع كل زيادة في الأسعارتقترب الشعوب أكثر من الثورة, وهناك أيضا مراكز بحثية تابعة للمخابرات الأمريكية تقدم تقارير دورية عن مؤشرات' القلق' السياسي لعدد من الدول' ذات الأهمية' للإدارة الأمريكية, وغيرها كثير. لكن الجديد في دراسة ليتارو خصوصا وأدوات ومناهج البحث في علم الحوسبة الثقافية عموما أنها تبرز دور العامل الثقافي والمعرفي وتطوراته التاريخية في تفجر الاحتجاجات والثورات, وأنها بتحليلها الآلي لملايين النصوص يمكن أن تؤدي إلي إظهار عدد من العوامل وشبكات من العلاقات والتفاعلات بينها لم يكن الباحثون علي علم بوجودها أو تأثيرها. وأهم من الإجابة النهائية بنعم أو لا علي السؤال الذي يطرحة العنوان, هو ما يمكن معرفته في الطريق إلي الإجابة عن حدود العلم والتطبيقات التكنولوجية القائمة عليه وما يمكن لهذه التطبيقات قياسه وما يستعصي علي القياس, وما يثمر عنه كل هذا من تلاقح بين العلوم وظهور علوم جديدة, والإدراك بأن علما واحدا لا يستطيع بمفرده أن يقدم تفسيرا معقولا أو تحليلا وافيا لبعض الظواهر خاصة غير المادي منها والمرتبط ب' ديناميكا البشر' عموما وليس فقط بمتي تحدث الأشياء. لمزيد من مقالات د. خالد الغمرى