بداية لا بد من أن نشير إلي أن هناك ارتباطأ بين الفعل الثوري وبين الفن فكلاهما يستند إلي بعض المقولات مثل: الخيال, التلقائية, الحرية, التمرد. فالثورة في حقيقتها فعل إبداعي يستهدف تغيير الواقع وتغيير المفاهيم والقيم والذي يعني بدوره تغيير الانسان. فالثورة كي تكتمل لا بد لها من أن تحقق هذا الأمل: تغيير الواقع بشقيه الإقتصادي والسياسي و تغيير الانسان وتثوير مفاهيمه ووعيه بما يلائم قيم الحرية والعدل والجمال وهي قيم ذات طابع إنساني وعالمي وكوني. ومع ذلك لا يمكن لنا أن ننكر أن الثورات ربما تنطوي علي بعض الممارسات العنيفة والدموية التي لا نجدها في عملية الإبداع الفني, كما أن الثورات برغم توظيفها للخيال تظل أكثر وفاء للواقع من الفن, فالفن خاصة في شكله الحداثي يستطيع أن يهرب من الواقع ويؤسس واقعه اليوتوبي الخاص في حين أن الثورة لا تستطيع أن تنفي الواقع بصورة كلية, وإن استطاعت أن تدمر الواقع القائم بمؤسساته وهياكله التنظيميه, إلا أنها مضطره بحكم الضرورة لأن تؤسس واقعا مغايرا ومناهضا كثيرا ما يحمل في صفاته وملامحه وعناصره بعضا من بقايا النظام المنهار. أما الفن برغم أنه يخضع لقوانين الواقع المعطي, إلا أنه في الوقت نفسه ينتهك هذه القوانين, فهو يتجاوز الواقع القائم ويتمرد عليه كي يفتح له بابا جديدا للحريه ويبعث نوعا جديدا من الوعي الرافض المتمرد. إن الفن كما يذهب ماركيوز في كتابه' مقال في التحرر' لديه المقدره علي وضع الواقع القائم موضع اتهام واستحضار صور أخري نافية لهذا الواقع, ويستشهد ماركيوز علي هذا الفن الرافض بالموسيقي السوداء التي استطاعت ان تقتحم الحضاره البيضاء, تلك الموسيقي التي نشأت وسط عالم من القهر, عالم يموج بالاستعباد والفقر والتهميش, ومع ذلك فقد استطاع اصحابها من المناضلين السود أن يهدموا بموسيقاهم الجديدة عرش السيمفونية التاسعة وأن يمنحوا الفن طابعا حسيا له مباشرته المرعبه التي تحرك وتكهرب الجسد. إن الموسيقي السوداء هي أساسا موسيقي المقهورين التي تبين إلي أي مدي يستطيع الفن أن يكون عنصر احتجاج وقوة تمرد داخل المجتمع القمعي. علي أية حال فإن نظرة ماركيوز إنتقائيه إلي حد كبير, وربما تعبر علي حالة تاريخية خاصة جدا فليست كل الفنون ذات طابع احتجاجي مباشر, قد يكون من الأصوب أن نقول أن الفن بطبيعته متمرد, فالفنان المبدع لا بد وأن يمارس التمرد علي التقاليد سواء التقاليد الفنيه( الشكل والمضمون) أو التقاليد الثقافيه والاجتماعيه, فالفن الابداعي حداثي بطبعه بمعني أنه يتمرد علي القديم ولا ينهض إلا علي جثة هذا القديم والقطيعه معه, وبالتالي يصعب أن نصنف الفنون إلي فنون ثوريه وأخري لا ثورية فهذه مسأله ذات طابع نسبوي وقيمي, فالفنون الحداثيه قد تبدو بالنسبة للماركسي التقليدي تقاليع برجوازيه. إن موقف ماركيوز من الفن لا يختلف كثيرا عن موقف رفاقه من الماركسيين المعاصرين ف' لوكاتش' اقتصر الأنماط الواقعيه علي بعض النماذج الفنية مثل أوديب وأنتيجونا وأنا كارنينا, علي حين يوسع جارودي مفهوم الواقعية ليشمل فناني النزعة الحداثية من أمثال بيكاسو وكافكا. ومن المفارقات المؤلمة أن بريخت الذي استخدم مسرحه التعليمي لإيقاظ الوعي الطبقي لدي البروليتاريا, لم يلاق النجاح المطلوب لدي الطبقة العاملة, في حين لاقي رواجا أكبر لدي الجمهورالبورجوازي! ويبدو أن سارتر لم يكن محقا عندما تصور أن الكاتب عندما يقرر الكتابة فإنه يختار جمهوره لأن اختيار الموضوع يتضمن في نفس اللحظة اختيار الجمهور من وجهة نظره, والمسألة في رأيي ليست بهذه البساطة التي تصورها سارتر فكثيرا ما تخون الأعمال الفنية مقاصد مبدعيها, ولعل السؤال الذي يواجهنا بالنسبة لسارتر هو لماذا يكون النثر هو الوحيد القادر علي الالتزام في حين تعجز الموسيقي والشعر والفنون التشكيلية؟ ألم يكن سيد درويش ملتزما, ألم يكن صلاح جاهين ونزار قباني وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور من الشعراء الملتزمين, ألم يكن محمود مختار ومحمود سعيد وعبد الهادي الجزار من الفنانين الملتزمين؟ إن الفن من وجهة نظري يجب أن يتوجه بندائه إلي الإنسان بصرف النظر عن لونه أو طبقته أو جنسه, فالفن الحقيقي لابد وأن يحتفظ بهذا البعد الإنساني الذي يتحرر من سلطان الطبقة والدين والأخلاق, فالفن الحقيقي يتأسس علي الحرية ويرفض الخضوع لأي سلطة أو وصاية وينحاز لقضايا الإنسان والعدالة, والحق في العيش والحياة. والآن ما هو الموقف بالنسبة لعلاقة الفن بالثورة في الواقع المصري بعد انتفاضتين ثوريتين هل تغيرت صورة الإبداع بعد هذه التغيرات؟ الإجابة من وجهة نظري بالنفي, فقد استطاعت إنتفاضة شباب25 يناير أن تسقط نظاما سياسيا عتيقا, لكنها كانت ثورة مغدورة إذا تم السطو عليها من قبل التيارات الدينية الأصولية التي استطاعت أن تجعل من نفسها الوريث الوحيد للأب المقتول, أعني أن الثوار نجحوا في قتل الأب الرمزي السياسي الذي تمثل في حسني مبارك وحاشيته, ولكن نظرا لافتقاد التيارات الثورية الحديثة لعناصر القيادة والتنظيم والممارسة استطاعت الجماعات الأصولية( الإخوان والسلفيون والجماعات الجهادية) أن تحتل عرش الأب المنهار وتعيد إنتاج السلطة الأبوية في أكثر أشكالها عنفا وظلاميه, وبالتالي عادت حملات التكفير والإقصاء والتفتيش في العقول والقلوب, ومن الطبيعي أن يتواري الابداع ويغيب الفن طالما أنه أصبح من المحرمات. أما إنتفاضة30 يونيو فقد نجحت في أن تعصف بجماعة الإخوان بفضل السخط الجماهيري المتصاعد وبفضل مساندة ودعم الجيش والشرطة, ومع ذلك فإنها عجزت عن تحقيق الآمال والطموحات التي كانت تتطلع إليها الجماهير خاصة في ظل وجود حكومة غير ثورية ينتمي معظم قياداتها إلي الأنظمة القديمة, وبالتالي فإن الثورة بمعناها العلمي الذي يعني التغيير الكيفي للنظام الإقتصادي والسياسي, والمنظومة القيم والتقاليد والأفكار السائدة, ولكل أنماط وأساليب العيش والتفكير.. كل ذلك لم يتحقق, ولذلك فإن البنية الثقافية والإجتماعية المنتجة للتخلف والقهر مازالت هي البنية السائدة. والواقع أن الفنون الجماهيرية التي تعكس الواقع بصورة مباشرة مثل الأغنية والفيلم السينمائي والأعمال الدرامية التليفزيونية مازالت تحاكي نفس النماذج الرديئة للفنون التي سادت طيلة حكم مبارك ومرسي, بل وزادت عليها سوءا في أنها أصبحت مولعة بتقديم كافة أنماط الإنحطاط الإنساني والمجتمعي خاصة صورة البلطجي وصورة الداعرة, وصورة الأبله أو المتخلف وجدانيا. وقد كان هذا ظاهرا للعيان في موجة أفلام الإنحطاط والإسفاف التي أنتجت خلال فترة العيد! بكلمة واحدة فإن الفن الذي يعبر عن روح الثورة والتمرد لم يولد بعد ومازال الفن في مصر باستثناء بعض الحالات الفردية- مستسلما حتي النخاع لواقع شديد السيولة والتميع, وهو فن ليس له أي رسالة سوي التسلية وشغل أوقات الفراغ, وهو في النهاية سلعة رديئة تخدم القوي الظلامية وتسعي إلي ترسيخ الفوضي وكل صور إنتهاك واحتقار القيم الجمالية والأخلاقية. لمزيد من مقالات د.حسن حماد