أرسي الإسلام أسس العلاقات القويمة بين الأفراد, بل وبين الدول بعضها وبعض, سواء في حالي السلم أو الحرب, وبني هذه العلاقات علي هدي من تعاليم هذا الدين الحنيف. فكانت هذه الأسس من مفاخر التشريع الإسلامي, التي ينبغي علي مقنني أسس العلاقات بين الدول الآن أن تترسم نهجها, حتي لا يكون هناك حيف أو عدوان أو تدخل في الشئون الداخلية لبعض الدول, أو إحداث فتنة بين أفراد المجتمع في دولة ما. فقد أمر الله تعالي بالوفاء بالعهود, ونهي عن نقضها في آيات تزيد علي ثلاثين آية, منها: قوله تعالي: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا, وهذه الآيات تدل علي وجوب الوفاء بالعهود, وعظم جرم نقضها, ولذا كان الوعيد الشديد علي هذا النقض في بعض هذه الآيات. وقد امتثل رسول الله صلي الله عليه وسلم لما أمر الله تعالي به, من الوفاء بالعهود وعدم نقضها, فكان نموذجا يحتذي في ذلك, ولذا فقد طبق ذلك بطريقة عملية, وحث أصحابه علي الوفاء بالعهود وعدم نقضها, أيا كانت النتائج المترتبة علي ذلك, فقد روي عنه قوله: إني لا أخيس العهد( أي لا أنقضه), ولا أحبس الرسل, كما روي عنه أنه قال: لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به, وقد بلغ من وفاء رسول الله صلي الله عليه وسلم بالعهد, أنه أمر صحابيين بالوفاء بعهد قطعاه علي نفسيهما مع مشركي مكة أن يذهبا إلي المدينة, ولا يقاتلا معه في بدر, فقد روي عن حذيفة قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبو الحسيل, فأخذنا كفار قريش, فقالوا: إنكم تريدون محمدا ؟, فقلنا: ما نريده وما نريد إلا المدينة, فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننطلق إلي المدينة ولا نقاتل معه, فأتينا رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر, فقال: انصرفا, نفي لهم بعهدهم, ونستعين الله عليهم, وهذا يبين لنا إلي أي مدي كان حرصه صلي الله عليه وسلم وأصحابه علي الوفاء بالعهد. وقد عرف التشريع الإسلامي ما يسمي بعقد العهد, الذي يمنح للمعاهد من أهل دار الكفر إذا دخل دار الإسلام, حيث يكون له بمقتضاه عصمة دمه وماله, ويكون له به ما لرعايا دار الإسلام وعليه ما عليهم, ووفاء له بعهده هذا حرمت الشريعة قتله أو الاعتداء عليه أو علي ماله, ولذا توعد رسول الله صلي الله عليه وسلم من يقتله, فقد ورد في الحديث: من قتل نفسا معاهدا بغير حق, لم يرح رائحة الجنة, وإنه ليوجد ريحها من مسيرة أربعين عاما, وروت أم هانئ فقالت: ذهبت إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب, فسلمت فقال: من هذه ؟, قلت: أم هانئ بنت أبي طالب, قال: مرحبا بأم هانئ, فلما فرغ من غسله قام فصلي ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد, فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلا أجرته, فلان بن هبيرة, فقال صلي الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ, بل إنه حقن دم اثنين من المشركين من قبيلة بني عامر التي قتلت سبعين من أصحابه كانوا بسرية القراء, حيث دخلا المدينة فأمنهما علي نفسيهما, وودعهما لما قتلهما عمرو بن أمية الضمري ثأرا بمن قتل في هذه السرية, وقد ترسم السلف الصالح نهج رسول الله صلي الله عليه وسلم في الوفاء بالعهد, فهذا ميمون بن مهران يقول: ثلاث يؤدين إلي البر والفاجر: الرحم يوصل, برة كانت أو فاجرة, والأمانة تؤديها إلي البر والفاجر, والعهد يوفي به للبر والفاجر. كل هذا وغيره يظهر صفحة الإسلام الناصعة, في إرساء مبدأ قويم من مبادئ العلاقات بين الناس أو بين الدول, وهو الوفاء بالعهد والميثاق, وعدم نقضه تحت أي مقتضي, ولو أدي الوفاء به إلي الإضرار بمن التزم الوفاء به.