للعبقري صلاح جاهين رسم كاريكاتوري يصور فيه بلابل تصدح علي شجرة, وبجوارها غراب, وعندما يسأله أحد البلابل لماذا لا يشدو؟ يرد قائلا إنه ناقد! والتشبيه المضمر للنقد بنعيب الغراب كان من نتائج ضيق المبدعين في الستينيات من القرن الماضي بما كنا نسميه فوضي النقد بمعني عدم التزام بعض النقاد بالمعايير العلمية( والموضوعية) في تعليقاتهم علي الأعمال الأدبية, خصوصا بسبب ازدياد المساحة المتاحة لنشر الإبداع والنقد في فترة الازدهار الأولي, حيث تكاثر عدد ما كان يسمي بمجالات وزارة الثقافة المتخصصة, وتكاثر بطبيعة الحال عدد المبتدئين من المبدعين والنقاد جميعا. وكان من يخطون خطواتهم الأولي في الكتابة يضيقون بمن يكتب عنهم كلاما لا يرضيهم, بسبب تضارب المذاهب الأدبية والنقدية التي أسيء فهم بعضها آنذاك, مثل فكرة استقلال العمل الفني, عن المادة الحياتية التي استمد منها] وتمتعه بما يسمي البناء العضوي, بمعني أنه كائن حي لا يقبل الانتقاص منه أو الإضافة إليه, فكان ما كان من خصومات طريفة علي صفحات المجلات, بل والصحف القومية بين دعاة كل مذهب. ولكن زخم الإنتاج صاحبه زخم فكري أدي إلي وضوح بعض المفاهيم وثباتها, وتواري البعض الآخر, وعلي مر السبعينيات, ما بين المد والجزر, تبلورت بعض التيارات التي نضجت نتيجة الاحتكاك المباشر بالعالم الخارجي, إما علي أيدي من عادوا من الغربة في أوائل الثمانينيات بمعارف زاخرة ونظريات قشيبة, وإما بسبب النضج الطبيعي الذي شهدته الحياة الجامعية التي غدت أكثر اتصالا بالصحافة وأجهزة الإعلام, فانحصرت دائرة النقاد فيمن درسوا النظريات الأدبية والنقدية الحديثة, عربيا وعالميا, وتعمقت كتاباتهم, وظهرت الحاجة إلي مطبوعات متخصصة في هذا المجال, وكانت ريادتها علي مستوي العالم العربي دليلا علي الاتصال الوثيق بين فكرنا وتيارات الفكر المعاصر عربيا وعالميا. غير أن هذه الموجة' المتخصصة' في نهر النقد الأدبي المتدفق واكبتها شكوي القراء العاديين والمبدعين علي حد سواء من' صعوبة' الأفكار الجديدة التي تحملها مصطلحات جديدة سبك بعضها خصوصا لنقل هذه الأفكار, مما جعل لتيار النقد النظري طابعا أكاديميا تصطرع فيه الرؤي والمذاهب, ويكاد يختص بالصفوة ولا يخاطب القارئ العادي والمبدع المبتدئ, وهما تحديدا من ينبغي أن يمد النقد الأدبي يده إليهما حتي يعين الأول علي تفهم العمل الأدبي وتذوقه, ويعين الثاني علي الوعي بأبعاد قد لا يكون علي وعي بها في عمله, وربما تأثر بما يقرأ فتجنب ما يريد أن يتجنب وحاول ما يطمح إلي محاولته, وبهذا يحقق ما يريد تحقيقه في صورة أكمل. ومن يتأمل صحفنا الكثيرة ومجلاتنا المنوعة سوف يلحظ هذا النقص الذي أشرت إليه, أي النقد التطبيقي الذي يلقي الضوء علي الأعمال الأدبية حتي يظهر خصائصها, حتي ولو أحجم عن القطع فيما يعتبر من المحاسن أو المساوئ, فالنقد التطبيقي هو الوجه الآخر لعملة النقد النظري الذي حققنا فيه إنجازات مرموقة. وهذا النقد التطبيقي ينقسم عالميا إلي قسمين: القسم الأول يضم نقاد الصحف أي الكتاب المتخصصين في عرض, مراجعة] الأعمال الأدبية الجديدة, المكتوبة أصلا والمترجمة, ويتحمل هؤلاء مسئولية كبري إذ إن عليهم أن يعرفوا القارئ بالعمل وأن يلقوا الضوء علي سياقه الخاص بالمؤلف( أو المترجم) وسياق النوع الأدبي الذي ينتمي إليه, ويزيد من ضخامة المسئولية وجوب الالتزام بالموضوعية إلي أقصي حد ممكن, مستندين في أحكامهم إلي حقائق العمل وحده, لا إلي أية اعتبارات ذاتية مهما تكن. وأما القسم الآخر فيضم أساتذة الأدب والنقد الذين يتحملون مسؤولية لا تقل عن هذه جسامة, ألا وهي التحليل العلمي والفني للعمل في سياقات أوسع فنيا وفكريا, أي إن هذا السياق قد يتضمن أفكارا فلسفية مما شاع في النظرية الأدبية الحديثة, عن علاقة' الخطاب' بتكوين' الذات' ومواقع الذات, أو الذوات] الاجتماعية, وما إلي ذلك مما أصبح يجمع بين علماء اللغة وفلاسفتها من ناحية, والمفكرين من دارسي التكوين الاجتماعي والفكري للذات علي ضوء الأعراف السائدة والمتغيرة من ناحية أخري, بل وارتباط ذلك كله بنظريات الهيمنة, وما لف لفها من دراسات الفكر و'السلطة'. وقد تكون الكتب هي المكان المناسب لمثل هذا النوع من النقد نظرا لأن مثل هذه المقالات النقدية تصبح أقرب إلي الدراسات منها إلي العروض, وتتطلب مساحة أكبر مما يتاح عادة في الصحف, باستثناءات محدودة. وقد يجتمع النقد التطبيقي مع النقد النظري فيما يسمي' بالمقدمات' التي تكتب للأعمال الأدبية, فالمقدمة قد تتكون من جانب نظري وجانب تطبيقي, بحيث يتكاملان في تحديد رؤية الناقد للعمل الأدبي الذي يقدمه, والغالب هنا أن كاتب المقدمة يمهد الطريق لقراءة العمل, وأنه يراه جديرا بأن يعتبر عملا أدبيا ناضجا, مهما رأي فيه من مثالب, أي أنه بداية منحاز إلي صف الكاتب, وهذا بطبيعة الحال انحياز مشروع, فمن حق الناقد أن ينحاز إذا وجد ما يدفعه إلي الانحياز, وما دام ملتزما بالموضوعية في تبرير انحيازه, فالموضوعية لا تعني الامتناع عن اتخاذ أي موقف من أي لون. وإذا كنت من دعاة النقد التطبيقي فأنا من دعاة تدعيمه بالجانب النظري أيضا, إذ أصبحت' النظرية' وأقصد باللفظ الدراسة النظرية للفكر واللغة فيما نسميه الأدب جزءا لا يتجزأ من دراسة الإبداع بمختلف صوره, فالتفكير النظري الذي يربط الأدب باعتباره ظاهرة بشرية بحياة الإنسان جزء لا يتجزأ من التكامل الفكري بين العديد من العلوم الإنسانية في مراحلها الحديثة, وأرجو أن أستطيع في كتابات مقبلة أن أبين فائدة الدرس النظري للناقد والمبدع معا, من خلال تقديم بعض المداخل النقدية المعاصرة. وريثما يتسني لي ذلك أود أن أقول إن النقد قد يتخذ الشكل الذي أشار إليه أحد كبار النقاد والأدباء في الخارج وهو الإسهام في حركة فكرية زاخرة تقدم كل ما أنجزه العقل البشري في تأمله للدنيا والناس بحيث تشكل هذه الحركة جوا أو مناخا عاما يستطيع المبدع فيه أن يصقل فكره الذي يصوغه صياغة فنية, فالناقد من هذه الزاوية معلم ينشر علمه علي الناس فيحرر أذهانهم من أغلاط الفكر ويهيئ التربة الصالحة لغرس فنون أدبية ذات ثراء فكري. وبهذا المعني يصبح كبار مفكرينا الذين يسهمون في هذه الحركة نقادا دون أن يتطرقوا لأي أعمال أدبية بعينها. وربما لاحظ القراء أنني تعمدت عدم ذكر أية أسماء عربية أو أجنبية, استنادا إلي فطنة القارئ, إذ أظن ظنا أنها أسماء معروفة, وأما من لم يسمع بها فربما لم تفده بشيء. فإنما كنت أهدف إلي تأكيد أهمية وجود النقد الأدبي باعتباره نشاطا فكريا وفنيا مفيدا للمبدع والمتلقي معا. لمزيد من مقالات كتب:د. محمد عناني