منذ ثورة25 يناير وحتي الآن ونحن نتساءل متي تصل الثورة إلي مؤسسة الجامعة في مصر؟ ممارسات ووقائع وملفات وطرائق تفكير تشي كلها أن الثورة لم تمر بعد من هنا. بل إن الإصلاح الأكاديمي نفسه وهو الحد الأدني المطلوب ما زال مطلبا ثقيلا علي البعض. لهذا نحتاج اليوم لأن نتأمل عمق ومغزي المقولة الشهيرة التي تنسب الي جنرال فرنسا ومنفذها الكبير شارل ديجول أثناء قيادته حركة المقاومة من إنجلترا ضد الاحتلال الالماني لبلده حين سأل زائريه من رفاق السلاح هل الجامعة بخير؟ ولما ردوا بالإيجاب قال إذن ففرنسا ما زالت بخير.. نفهم تماما أن تكون سلطة الحكم القائم منشغلة بقضايا اقتصادية ومعيشية وتحديات سياسية ومتطلبات إنجاز المرحلة الانتقالية الحالية. لكن الملاحظ أن ثمة مساحة للتغيير والإصلاح لم تقترب منها الثورة ولم تمنحها سلطة الحكم القائم الوقت والأهمية اللازمين. هذه المساحة الإصلاحية لا تحتاج غالبا الي تمويل أو موارد او تشكيل برلمان, إنها تحتاج فقط إلي روح إصلاحية وغيرة وطنية. تفاءل الناس خيرا بوزراء يمتلكون هذه المواصفات مثل حسام عيسي وزياد بهاء الدين وآخرين. لكن ما زلنا نحتاج في مواقع ومؤسسات الدولة إلي مسئولين إصلاحيين يقتنعون فقط أن هناك( تغييرا) قد حدث في هذا البلد, أقول تغييرا اذا كانت كلمة( الثورة) لا تعجبهم. فمن الضروري أن يشعر الناس أن هناك ثورة بالفعل حدثت في مصر, وأن هذه الثورة قد وصلت إلي مؤسسات كان الترهل قد أصابها بالجمود وفقر الخيال. وأولي وأهم هذه المؤسسات مؤسسة الجامعة في مصر. وحينما جاءت الانتخابات بالدكتور جابر نصار رئيسا لجامعة القاهرة وبفارق صوت واحد عن المرشح المنافس( وهذا أول درس ديمقراطي) كان التساؤل يعيد نفسه مرة أخري: هل وصلت رياح الثورة المصرية أخيرا إلي جامعة القاهرة الجامعة الأم والأكبر في مصر؟ لست أقصد كأستاذ جامعي ولست أريد أن يتم تسييس الجامعة فهذا ليس في صالح الجامعة بل كل ما أحلم به أن يكون لدينا رئيس جامعي( إصلاحي) يقدم معايير الكفاءة والنزاهة والوطنية علي ما عداها.. رئيس جامعة يؤمن بالدور التنويري للجامعة وأنها صاحبة رسالة حقيقية قبل أن تكون موفرة خدمة تعليمية وأنها منارة فكر وعلم قبل أن تكون مجرد( ديوان إداري). لهذا كان جابر نصار موفقا حين أعلن صبيحة انتخابه أن منصبه يفرض عليه التجرد والحياد والابتعاد عن أي فصيل سياسي أو حزبي والعمل فقط من أجل صالح الجامعة أساتذة وطلابا وإداريين. لم يخذلنا جابر نصار منذ خطواته وقراراته الأولي في الجامعة. كانت مبادرته الأولي اللافتة أنه ألغي بنفسه لنفسه ولنوابه أي مكافآت يتقاضونها تحت مسميات صورية وهمية لا يقابلها عمل حقيقي. اتخذ الرجل موقفه بما يمليه عليه ضميره من ظاهرة ربما لا يعلم عنها الكثيرون في مصر شيئا. ولأن الحديث دائر هذه الأيام عن قضية الحد الأقصي للأجور وهي مطلب شعبي بالغ الأهمية فلا أبالغ إذا قلت أن ثورتنا ستظل تلاحقها الشكوك ما لم تتصد سلطة الحكم القائم لها, وأن تضع حدا لتجاوزات الحد الأقصي للدخول والتي تكاد تمثل في بعض صورها نوعا من أنواع الفساد المقنن. ليس سرا ان حافظة المستندات التي قدمت في احدي القضايا في الاسكندرية قد تضمنت أدلة وأوراقا رسمية تفيد تقاضي رئيس إحدي الجامعات علي دخل شهري يناهز ال300 الف جنيه مصري. يحدث هذا في بلد يعيش فيه40% من السكان تحت خط الفقر! من حق الدكتور جابر نصار إذن أن نحييه حين قرر أن يبدأ بنفسه ضاربا المثل في النزاهة التي يجب ان يتحلي بها من هو في مثل موقعه ولا يقبل إلا المبلغ الذي أدي مقابله عملا حقيقيا وليس صوريا. القرار الثاني الذي يحسب لجابر نصار رئيس جامعة القاهرة كان بمناسبة ما أثير حول منح صفة الضبطية القضائية لموظفي الأمن الإداري في الجامعة. في وقت كانت فيه الأعصاب السياسية مشدودة والمخاوف قائمة من حدوث أعمال عنف في الجامعة في بداية العام الدراسي امتلك جابر نصار من الشجاعة والحس الوطني والغيرة علي الجامعة ما يجعله يخرج معلنا أن جامعة القاهرة لن تطلب منح الصفة القضائية لموظفي الأمن الإداري فيها وأن أحدا لا يستطيع أن يفرض أمرا علي الجامعة ولو كان هو وزير التعليم العالي نفسه. والمؤكد ان جابر نصار كان محظوظا بوجود وزير للتعليم العالي من طراز المناضل الوطني المستنير حسام عيسي الذي أبدي بدوره من قضية الضبطية القضائية موقفا حرا جديرا بوزير صنع اسمه من تاريخه الوطني وليس من مقعد الوزارة أو نيابة رئاسة الوزارة. الواقع أن جابر نصار حين كان أول رئيس جامعة يرفض علنا منح صفة الضبطية القضائية داخل الجامعة لم يفعل ذلك لحسابات ما أو لتسجيل موقف سياسي. هو فعل ذلك في اعتقادي لأنه يدرك المعني الحقيقي لاستقلال الجامعة. فما الذي يتبقي من مصداقية جامعة تعلم أبناءها قيم الحرية والوطنية والمسؤولية ثم تكون هي أول من يرتد علي ذلك؟ بل إنني أتصور أن موقف رئيس جامعة القاهرة قد حما وأنقذ الحكومة والسلطة من تبعات وتداعيات مقترح مفخخ تسرع البعض في التحمس له لا لشيء إلا لإثبات ولاء مزيف للسلطة. لم يتعلم هؤلاء أن الذي أسقط النظام السابق هم أقرانهم من أصحاب الولاء المصطنع المزيف إياه. تماما مثل الدببة التي تقتل أصحابها, ربما كانت الدببة أكثر براءة لكن هؤلاء أكثر دهاء وربما شرا. لأن مصر تحتاج اليوم الي إصلاحيين جادين وإلي أصحاب رأي مخلصين فقد أعاد إلينا الدكتور جابر نصار الثقة في أن الثورة لمصرية قد أنجبت أخيرا ثوريا إصلاحيا بدرجة رئيس جامعة. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم