مرت قرون طوال علي الأزهر واختلفت عليه الأحداث وتتابعت الدول, وهو يؤدي رسالته في خدمة الدين واللغة ويبذل قصاري الجهد في أداء هذه الرسالة لاتنال منه الأحداث ولا يثنيه عن غايته ما اعترض طريقه من عوائق كان أهونها أن يثبط العزائم ويوهن القوي. فعلي سبيل المثال في العهد الفاطمي ظل الأزهر زهاء قرنين من الزمان معهدا لدراسة علوم الدين واللغة, وكان يدرس فيه كبار العلماء, بل لقد درس فيه وزير المعز كتابا ألفه بنفسه وبجانب علوم الدين كان يدرس في الأزهر علوم الأدب والمنطق وتلقي فيه المحاضرات في بعض أيام الأسبوع التي تكون مجالا للمناقشة والدراسة. أما في العصر الأيوبي استعان صلاح الدين بعلماء الأزهر للتدريس في المدارس التي أنشأها, وكانت العلوم التي تدرس في هذه المدارس هي العلوم الدينية واللسانية إلي جانب أنه كانت تدرس علوم الرياضيات والمنطق. ثم كانت كارثة سقوط بغداد علي أيدي التتار وضعف حكم العرب في الأندلس, وبعد قليل من سقوط بغداد استولي المماليك علي الحكم في مصر وكادت اللغة العربية تذهب كما ذهبت لغات أخري حيث أحرق التتار الكتب وقتلوا العلماء وعطلوا المدارس, إلا أن الأزهر ظل المكان الذي تشع منه العلوم. فقد لجأ العلماء الفارون من وجه التتار والعلماء المهاجرون من الأندلس إلي الأزهر ووجدوا فيه محطا لرحالهم ومكانا صالحا لأداء رسالته. والحقيقة فقد حبب الله إلي سلاطين المماليك أن يميلوا إلي العلم وأن يقربوا العلماء ويغدقوا عليهم فتخرج في الأزهر علماء أجلاء مازلنا ننعم بما خلفوه من دراسات واسعة شاملة. وقد بقي الأزهر منارة هادية حين جاء العصر العثماني وتخرج فيه في هذه الفترة جماعة من كبار العلماء منهم الشيخ محمد الخراشي أول من تولي مشيخة الأزهر. ومنهم أيضا الشيخ العطار حيث كان حريصا علي مخالطة الفرنسيين ليأخذ من علومهم ومعارفهم وهو أول من نادي بالإصلاح والتجديد في العالم العربي. والحقيقة أن دور الأزهر في النهضة الحديثة كان بمثابة المؤسس لبنيانها والرافع لأركانها, وكان علماؤه من رواد تلك النهضة والباعثين لها, فكان منهم الداعية للتجديد وآخرون حرروا أوليات الصحف, وفريق آخر سافر في بعثات إلي أوروبا ثم عادوا فكانوا بناة النهضة وطلائع الإصلاح ومنهم رفاعة الطهطاوي. وقد كان للأزهر دور كبير في التقدم السياسي والعلمي, فلايمكن أن ينكر أحد أن الأزهر كان الملجأ للمصريين منذ أن أنشئ يرد عليهم عادية الظالمين. وقد ظل الأزهر يقود كل ثورة ضد الظلم, وقاد علماء الأزهر الثورات ضد الفرنسيين واشتركوا اشتراكا فعليا في ثورة عرابي, فكان منهم الممهدون لها وكان عرابي نفسه من طلاب الأزهر. وكان لعلماء الأزهر دور كبير في تأجيج الروح الوطنية ضد المحتل وقادوا ثورة1919 وكانوا خطباءها والمصطلين بنارها. وفي النضال ضد الاستعمار الفرنسي,احتشدت الجموع الغاضبة من الاستعمار في الأزهر. وكان الأزهر مركزا لتجمع المقاومة, الأمر الذي اضطر جنود بونابرت لاقتحام صحن الجامع الأزهر. وقد عجل ما فعله بونابرت بانسحاب القوات الفرنسية من مصر حيث اندلعت ثورة عارمة ضد التصرفات التي اقترفها جنود بونابرت في الأزهر. وقدم الأزهر آنذاك عددا لابأس به من الشهداء, كما أقدمت القوات الفرنسية علي إعدام عدد من علمائه. وكان مقتل الجنرال كليبر علي يد سليمان الحلبي أحد طلاب الأزهر. وكان من أبرز من قاد الثورة آنذاك ضد الفرنسيين الشيخ عمر مكرم. وحتي في العدوان الثلاثي علي مصر عام1956 اعتلي الزعيم جمال عبد الناصر منبر الأزهر ليخطب في الناس كرمز تاريخي, ويعلن أن مصر ستظل صامدة ضد العدوان. وبعد نكسة عام1967 كان للأزهر دور كبير في تأجيج الروح الوطنية والمقاومة ضد الإسرائيليين. وطيلة هذا الوقت لم يكل الأزهر أو يمل عن دعم القضية الفلسطينية خاصة قضية القدس, ففي عام1929 قام شيخ الأزهر آنذاك الشيخ المراغي وطلابه بمطالبة بريطانيا بالكف عن دعم إسرائيل. وبعد الحرب العالمية الثانية امتدت المطالبات لأمريكا وأرسل الأزهر علماءه للأراضي الفلسطينية المحتلة لتعليم الدين الإسلامي والعمل علي نشر التعليم. ويوجد فرع لجامعة الأزهر في غزة حيث تم إنشاؤه عام1991. إن دور الأزهر لايمكن الاستغناء عنه, فهو المنارة الهادية لطريق الرشاد كما أن ما يدرسه من علوم تجعل من طلابه أشخاصا لايمكن التأثير عليهم بأفكار مغلوطة, الأمر الذي يجعله بالفعل حصن الدين المنيع ومنبر الاعتدال. كل ما سبق يجعلنا بالفعل نفكر في طريقه الحفاظ علي ذلك الحصن ومجابهة كل الأفكار التي تدعو لنزع الأزهر من معناه وتاريخه دون أن نغفل أهمية العمل علي تطوير ذلك الحصن بما يجعله دائما نبراسا يهتدي به في وقت سادت فيه الظلمات. [email protected]