لعل من أهم ماكشف عنه الجدل الذي ثار أخيرا بين وزارة الأوقاف والأهرام, اختفاء فضيلة الاعتذار من حياتنا في كل مجالاتها. والحكاية معروفة: الأهرام نشر خبر كتابة آية من آيات الذكرالحكيم, كتبها الدعاة والأئمة بشكل خاطئ, فما كان من الوزير والوزارة وبعض الدعاة إلا أن ثاروا, وهاجوا وماجوا, بل وبلغ حد الاستكبار بأحدهم أن رد قائلا: وفيها ايه يعني الخطأ في القرآن؟ بينما كان يكفي اعتذار جميل ومختصر من المخطئ, لتنتهي المسألة. فلماذا لم يعتذر من كان يتوجب عليه الاعتذار, وأخذه الكبر كل مأخذ؟ الإجابة ببساطة: لأن أحدا منا لم يتعود علي هذه الفضيلة الغائبة عنا, ويري الناس في بلادي أن الاعتذار أي اعتذار هو عنوان ضعف, وشيمة من شيم المستضعفين, مع أن العكس هو الصحيح تماما, إذ الاعتذار يزين صاحبه ولا يشينه, ويسمو به في عيون من تم ارتكاب الخطأ بحقهم. (طبعا بشرط ألا يكون الاعتذار عمالا علي بطال, وإلا أصبح تكئة للخطأ المستدام, والكسل وعدم الاهتمام!). وللذين لايعرفون, فإن للاعتذار عن الخطأ فوائد لاتعد ولا تحصي, ليس أولها أن المعتذر سيدرك خطأه, ومن ثم لايعود لتكراره, فيتجنب بالتالي الخسائر المترتبة علي الخطأ المتتالي. وليس آخرها أن الاعتذار يشيع بين الناس المحبة, لأنك عندما تعتذر لي, فسوف يهدئ ذلك من حدة غضبي, وينزع من النفس الأمارة بالسوء رغبتها في الثأر والانتقام. والحق, أن تنشئتنا الخاطئة منذ الصغر, علي احتقار الاعتذار والمعتذرين, أدت بنا إلي خراب ما بعده خراب,ليس علي مستوي الأفراد فحسب, بل علي مستوي الأمة بكاملها. ولك أن تتصور مثلا لو أن الاخوان علي سبيل المثال خرجوا للناس بعد03 يونيو, وحاوروهم, واعتذروا لهم عن سوء الأداء, وضعف إدارة البلاد خلال العام الذي حكمونا فيه.. هل كانت أريقت كل هذه الدماء؟ أو تصور مثلا أن مبارك, وقد رأي الناس خرجت تهتف ضده, وضد سياساته, خرج لهم, بدلا من المماطلة والتسويف واللف والدوران, واعتذر, هل كان قد جري لنا ماجري منذ يناير1102 وحتي الآن؟ وانظر إن شئت إلي حكام الغرب, وكيف يخرجون للاعتذار عن سياساتهم الخاطئة, ثم يتركون الحكم والسلطة لغيرهم لعلهم يصلحون ما أفسدوه هم, ألا تري الغرب يتقدم يوما بعد يوم بسبب هذا السلوك, بينما نحن ها هنا منبطحون, وفي وحل التخلف والأكاذيب والأوهام إلي الأذقان غارقون؟ وانظر أيضا إن شئت إلي مسلسلاتهم وأفلامهم, ألا تسمع منهم كثيرا عبارة أنا آسف, يقولها الكبير للصغير, قبل أن يقولها الصغير للكبير؟ إنهم تربوا علي التسامح, وإعمال العقل والمنطق, فأوصلهم ذلك إلي حقيقة أن الاعتذار, والاعتراف بالخطأ, هما أقصر طريق لإصلاح الأخطاء أولا بأول, أما نحن فدائما تأخذنا العزة بالاثم, ونعاند, فيكون العناد أول خطوة للكفر( والعياذ بالله).. ألم يقولوا في الأمثال العند يورث الكفر؟ وعلي المستوي السياسي, دائما ما يري رئيس الحزب, أو رئيس الحكومة, أو حتي رئيس الدولة( بل ورئيس أي حاجة!) انه الوحيد الذي علي حق, فينتشر الخوف بين المرءوسين, ويتفشي النفاق, فلا يشعر الجميع بأن سفينتهم تغرق, إلا بعد أن يكون الماء قد ملأ الحلقوم, ولنا في تاريخنا الحديث والمعاصر ألف دليل ودليل. وللعلم, فإن الاعتذار برهان علي العقل والنضوج وحسن التصرف, بينما الاستكبار دليل علي الجبن وضعف الحيلة والعقل معا. إنك وأنت تعتذر تكون قويا شجاعا, وقادرا علي تحمل مسئولية خطئك, أما المستكبر فإنه يتخفي خلف هذا العناد ليخفي خوفه من المواجهة, ومع تراكم عدم الاعتذار عن الخطأ من الجميع, يتحول المجتمع إلي قطيع من الخطائين الذين لايتوبون, وهذا هو عين الجحيم. عندنا ياولداه لا الولد يعتذر لأبيه إلا إذا صفعه, ولا البنت تعتذر لأمها إلا إذا صرخت في وجهها, وربما مزقت لها شعرها المنسدل خصلة خصلة, ولا التلميذ يعتذر للمدرس إلا إذا ركله, ولا المواطن يعتذر للشرطي إلا إذا في السقف علقه وهات ياضرب, وتستطيع سيادتك أن تعكس المسألة, فلا الشرطي ولا المدرس ولا الحاكم ولا الأب, ولا الأم ولا الأخ الأكبر يعتذرون, فننزل كلنا علي بعض ضربا بالأكف والأقدام,, وأخيرا بالرصاص الحي! .. وفضلا عن ذلك, فإن عدم الاعتذار, هو بداية الاستبداد, ونهايته أيضا, كيف؟ عندما لا يعتذر الحكام( وكلكم حاكم في مملكته!) يسود الخوف, وتتسع دائرة الأخطاء, وتظلم عينا الحاكم وضميره, فلا يري إلا نفسه, ويعتقد انه الوحيد الذي يملك الحقيقة المطلقة, وهذه بداية صناعة الحاكم المستبد.. ثم يكون الغضب المكتوم, الذي يتحول في لحظة غير متوقعة إلي صرخة شعبية لاتبقي ولا تذر, فيخرج المقموعون من جحورهم, يمزقون هذا المستبد إربا, وساعتها لن ينفعه صراخه المستغيث: فهمتكم فهمتكم, أو حتي اختباؤه في ماسورة صرف صحي أو في حفرة حقيرة! فيا حكام العرب, ويا رؤساء أي شيء وكل شيء في حياتنا, اعتذروا لمرءوسيكم, وعلموهم الاعتذار, ولا تراهنوا علي الزمن, فها هي العروش حولكم تنهار, وفضيلة الاعتذار بداية النجاة.. لمزيد من مقالات سمير الشحات