هل هو قدر مقدور في زمن منظور أن تبقي مصر ولعقود طوال في أسر المأساة السيزيفية وهي تبحث عن هويتها التي تبدو ملتبسة علي أبنائها حتي الساعة, وبعد مرور أكثر من ستة عقود علي التحرر من الاستعمار الخارجي؟ عرف سيزيف أوسيفيوس بأنه أحد أكثر الشخصيات في الأساطير الإغريقية مأساوية, ذلك أنه استطاع أن يخدع إله الموت ثاناتوس مما أغضب كبير الآلهة زيوس, فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلي أعلاه, فإذا وصل القمة تدحرجت إلي الوادي, فيعود إلي رفعها إلي القمة, ويظل هكذا إلي ما لا نهاية, ليضحي لاحقا رمز العذاب الأبدي. هل صراع الهوية المصرية اليوم به مسحة ما من هذه الإشكالية؟ يبدو ومن أسف أن ذلك كذلك, فلا يزال الصراع بنوع خاص محتدما بين تيارين رئيسيين, التيار القومي, والتيار الديني, ولا تبدو في الأفق ملامح لانتصار أحدهما علي الآخر حتي الساعة, وهنا الكارثة وليست الحادثة. علي أنه بين المواجهة الحادثة بين الطرفين تضيع في الطريق معالم كثيرة لتلك الهوية ورباطاتها الآنية بقيم عصرانية مثل الحداثة والمواطنة والتعددية والقوة الوطنية. يمكن القطع بأن ثورة يوليو1952 كانت بداية مسيرة مصر الحديثة نحو فكرة القومية, والتي بتعريفها بالضرورة تحمل معاني غربية كالحداثة والتقدم, وحق الشعوب في تقرير مصيرها وصون كرامة الإنسان, ولاحقا كان السعي لتحقيق فكرة الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة. وبرغم الأخطاء التي ارتكبت في بعض مراحل البحث عن الهوية المصرية في إطار انصهار مصر في الوطن العربي الكبير من الشام لبغداد ومن نجد الي اليمن الي مصر فتطوان, إلا أن الكنانة ظلت في كل الأحوال وعاء حضاريا يستوعب الآخر, العربي تحديدا, دون أن تفقد الشخصية المصرية جوهر سبيكتها الفرعونية, الإفريقية, الشرق أوسطية, القبطية, الإسلامية معا. علي ان علامة استفهام ستظل تلاحق تلك الحقبة: هل كانت النهضة القومية العربية كافية لغلق أضابير المشروع الديني في تقاطعاته مع البحث عن الهوية المصرية؟ بالقطع لا, فقد وجد من قبلها وتعايش معها لسنوات قلائل, ثم جرت المقادير بالمواجهة والصراع بين الطرفين طوال الستينيات, وخفت صوت التشارع والتنازع قليلا في السنوات التي أعقبت هزيمة يونيو وحتي نصر أكتوبر, وإعادة افتتاح قناة السويس, وكان ما كان من أمر الانفتاح الاقتصادي بما حمله من معطيات استهلاكية, وظهور طبقات كمبرادورية, وختمت المرحلة باتفاقية كامب ديفيد, واغتيال الرئيس السابق أنور السادات. والثابت أن الأزمة ربما بدأت تتعمق طوال العقود الثلاثة المنصرمة, وصولا إلي مشهدي25 يناير2011, ولاحقا30 يونيو المنصرم, ليترسخ في الأذهان, ويتجلي للعيان مقدار الشقاق والفراق, الذي جعل روح مصر منقسمة داخلها, وهو انقسام قاتل مميت, ومن أسف يسعي بعض أبنائها لعونهم سيرا إليه. لعل أخطر ما في المشهد الحالي هو أن مصر المتصارعة الآن بين فسطاطين, تفقد دون أن تدري طريقها إلي الحداثة, إذ كيف لها الولوج إلي فكرة دولة المواطنة دون اتفاق علي هوية المواطنين, وهو الأمر الذي يتلمسه المراقبون لعملية إعادة كتابة الدستور المصري الجديد, والمفترض فيه أن يكون معيارا أخلاقيا وإنسانيا وقانونيا لبناء مصر الحديثة أو العصرانية. هل بتنا اذن أمام مفترق طرق لابد من الاختيار فيه بين أنموذج علماني لا يراعي الإرث الثقافي والمخزون الروحي للمصريين بمسلميهم ومسيحييهم, وآخر ديني أصولي لا يري موطئ قدم لفكرة الوطن, ويذوب شوقا إلي تحقيق مفهوم الأمة والخلافة بالمعني الديني التجريدي؟ أغلب الظن أن طوق الإنقاذ الذي يمكن أن يتشبث به المصريون في هذا المنعطف الخطير في تاريخ أمتهم, وحتي إعادة اكتشاف الذات والهوية من جديد, هو البحث عن نموذج مصري يمزج بين الاصالة والمعاصرة, ويباعد بيننا وبين الأيديولوجيات العنصرية, ويقودنا الي رحاب الابستمولوجيات المعرفية الانسانية, لا نريد عقلانية جافة مسطحة تسيطر علي مقدراتنا الذهنية فتستبعد الدين كليا بحجة أنه ظلاميات, وبنفس القدر, لا نتطلع إلي أصولية متعصبة تكفر الآخرين, وتدعو إلي ذبحهم علي الهوية. كانت مصر وستظل بوتقة انصهار لجميع الأعراق والأجناس, ومخطئ من يظن أن هناك طريقا أحاديا ينبغي لجموع المصريين السير فيه مرغمين تحت ضغوط من القوة المادية أو المعنوية. وعليه وحتي لا يطول بنا التيه في برية البحث عن الهوية, وفي الوقت الذي ينقصنا رغيف الخبز وقطرات المياه, يبدو أن الحل الوحيد هو المضي قدما, معا ويدا واحدة, في طريق الصراع والكفاح الإيجابي لتحقيق نموذج من الديمقراطية المصرية نسق مغاير وربما مخالف في بعض جوانبه للأنماط الغربية, ديمقراطية مرتبطة بالمصالح الحياتية اليومية لكل مصري, لاسيما للطبقات الاجتماعية السفلي, والذين ليس لهم أحد يذكرهم, ديمقراطية يمثلها مجتمع مدني حقيقي في إطار تنويري مدني غير ملحد, يلغي استغلال الدين. علي انه لا ديمقراطية دون حريات سياسية تتبدي في هيئة الحقوق الفردية وفي حرية التعبير وتأسيس الجمعيات, والحريات الدينية التي تعني ضمنا حرية العبادة لجميع أتباع الديانات والعقائد الإيمانية المختلفة, والحرية الاقتصادية.. هل تدرك مصر الفرصة قبل أن يلف الظلام نحوها, ويتحول ماء النيل إلي دم كما يتمني لها الكارهون والحاقدون, ما يعني أن تعيش مأساة سيزيف كل يوم. لمزيد من مقالات اميل أمين