عندما أصدر الرئيس السادات في أغسطس عام 1974 ورقة تطوير الاتحاد الاشتراكي والتي دعا فيها إلى إعادة النظر في تنظيمه و هدفه، وخلص إلى رفض التعدد الحزبي ووافق على تعدد الاتجاهات داخل الحزب الواحد فيما أطلق عليه بعد ذلك اسم المنابر" والتي وصل عددها إلى 40 منبرا، كان ذلك بمثابة عودة الأحزاب السياسية لمصر بعد أن ألغتها ثورة يوليو طوال حكم عبد الناصر... ثم ما لبث أن قرر السادات تحجيم الأحزاب الماركسية، فقام بالدعوة لقيام الحزب الوطني الديمقراطي ورأى المهندس إبراهيم شكري وزير الزراعة آنذاك، في هذه المرحلة فرصة لاحياء فكر حركة مصر الفتاة، فقرر التقدم إلى لجنة الأحزاب لإنشاء حزب العمل الاشتراكي ونجح فى في تشكيل الحزب الذى تبنى نهجا إسلاميا معتدلا... استقال شكري من منصبه كوزير للزراعة في 1978م وأعلن قيام "حزب العمل الاشتراكي" حيث أعلن برنامج الحزب في 9 سبتمبر 1978وكان ذلك بمثابة الفرصة لعودة التيار الإسلامى للعمل السياسي من خلال حزب العمل بعد أن كان الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر قد حظر هذا التيار تماماً فى صورة جماعة الإخوان المسلمين وحاكم قياداتها فى أعقاب حادثة المنشية الشهيرة حينما اتهم النظام آنذاك، جماعة الإخوان المسلمين بمحاولة اغتيال الرئيس... وكان الرئيس الراحل أنور السادات في عام 1981 وقبل وفاته، وبسبب قيامه بزيارة إسرائيل وتوقيع معاهدة السلام مع الكيان الصهيونى، قد أجرى تعديلاً في قانون الأحزاب يسمح للجنة شئون الأحزاب والتي تأسست بموجب القانون 40 لعام 1977 يقضى بحق اللجنة فى الموافقة على طلبات تأسيس أحزاب جديدة دون غيرها، ويشترط لتكوين أي حزب توفر شرط التميز الذي يعني ضرورة أن يتضمن برنامج الحزب المتقدم ما يختلف عما تتضمنه برامج الأحزاب الموجودة، وتلتزم في مبادئها وأهدافها وبرامجها وسياساتها مع مبادئ الشريعة الإسلامية ومبادئ ثورتي يوليو 52 ومايو 1971 ومقتضيات الحفاظ على النظام الاشتراكي والديمقراطي والمكاسب الاشتراكية ويحظر إقامة أحزاب على أسس طبقية أو دينية أو على إعادة الحياة للأحزاب السياسية التي تعرضت للحل عام 1952 بسبب موقف حزب العمل منه ورفضه لتوقيع المعاهدة مع اسرائيل. جرى اغتيال السادات على يد عدد من الضباط المنتمين لتنظيم الجهاد الإسلامى المسلح، ليصبح ذلك سبباً مقنعا للتأكيد على حظر نشاط الإسلاميين السياسي والحزبى، واستمرار الاعتقالات السياسية والمحاكمات العسكرية للمنتمين لهذا التيار بعد أن أعادهم السادات بنفسه إلى الحياة السياسية، لتستمر هذه الملاحقات حتى سقوط نظام مبارك بعد ثورة 25 يناير... كانت النتيجة الرئيسية لهذا الحظر والملاحقة الأمنية للمنتمين لهذا التيار، أن نشأ احتقان شديد وعداء للنظام الحاكم بكل أجهزته وربما لمخالفيهم من أفراد المجتمع أيضاً، وقد دفعهم عدم قدرتهم على فرض آرائهم الدينية المتشددة أحياناً من وجهة نظر مخالفيهم ، للسعى إلى للوصول إلى الحكم للحصول على شرعية سياسية وآلية تمكنهم من فرض مبادئهم على مجتمع نجح فى أن يظل طوال عقود مجتمعاً مدنياً علمانياً متديناً فى الوقت ذاته... بعد ثورة يناير، نجح تيار الإسلام السياسي فى الوصول إلى الحكم، وتوقع الناس أنهم سوف يقدمون نموذجاً سياسياً مختلفاً، خاصة وأنهم تعرضوا للإقصاء والملاحقة من قبل النظام السابق، وكان الجميع يعلمون أنهم سوف يواجهون بمعارضة قوية ومنظمة من انصار النظام السابق فيما عرف بمصطلح "الدولة العميقة"، لكن ضعف أداء الحكومة واستمرار ظهور الأزمات الاقتصادية، الواحدة تلو الأخرى، كشف عن ضعف نظام الإخوان ذاته فى التصدى لتلك المشكلات، وخلو تنظيمهم من الكوادر الملائمة لتلك المرحلة من التطور السياسي والاقتصادى، خصوصاً وأنهم بدلاً من التصالح مع خصومهم السياسيين وقعوا فى نفس الفخ الذى وقع فيه النظام السابق، من حيث الإستئثار بالسلطة، فقاموا بملاحقات قانونية لخصومهم، واقصاء معارضيهم، مما دفع إلى حالة من الإحتقان حتى فيما بينهم وبين المواطنين العاديين، الذين لاينتمون لتيار سياسي محدد بسبب تردى الأوضاع الإقتصادية وعدم القدرة على تقديم أداء سياسي محنك ومقنع سواء فى السياسة الداخلية أم الخارجية، بالإضافة إلى خروج أنصار هذا التيار بتصريحات عجيبة تارة ومقلقة تارة أخرى دون فهم واضح لطبيعة علاقة هؤلاء الأنصار من بالنظام الحاكم سوى أنهم أعضاء فى الحزب السياسي الذى انتمى إليه الرئيس قبل توليه السلطة... بمرور الوقت وازدياد السخط العام، نشأت حركة تمرد من شباب مصرى غير معروف على الساحة السياسية، فقامت الحركة بجمع توقيعات وصل عددها إلى ما يقرب من 22 مليون توقيع لنزع الشرعية عن الرئيس المنتخب محمد مرسي، الذى فعل تماماً ما فعله مبارك، فبدلاً من أن يأخذ الأمر بجدية، دفع بأنصاره لإطلاق حملة "تجرد" المضادة لحملة تمرد، ليبدوا أمام الشعب وكأنه لايهتم إلا بأنصاره وحزبه السياسي مما عجل بسقوطه بعد تدخل الجيش لحسم الأمر ضده... لم يكن تدخل الجيش هذه المرة إنقلاباً كما يتصور البعض، بل بالأحرى تصحيحاً للخطأ الذى وقع فيه المجلس العسكرى فى أعقاب ثورة يناير، بعدم إصدار دستور قبل القيام بالانتخابات البرلمانية، تلك التى أسفرت عدم قانونيتها عن حل البرلمان، ثم الإضطرار لإصدار إعلانات دستورية ومنح مجلس الشورى المشكوك أصلاً فى قانونية انتخابه للتشريع، مما أدى إلى إرباك الحياة التشريعية وصدور قرارات ذات تأثير غير مضمون على الحياة السياسية والاقتصادية فى مصر بالإضافىة إلى دستور غير مقبول من جميع طوائف الشعب باستثناء الإسلاميين... ففى فترة حكم مرسي، تعاظم غضب أجهزة الدولة من ممارسات الحكومة فى عزل وتولية أنصار النظام من التيار الإسلامى من ذوى الخبرة المحدودة أحياناً، ومعدومى الخبرة فى أحيان أخرى، فيما اصطلح على تسميته بأخونة الدولة، مما دفع معظم قيادات أجهزة الدولة لرفض العمل مع الرئيس المنتخب، خاصة مع انتهاجه سياسة تدفع بمصر إلى العزلة مع جيرانها، حيث قام بقطع العلاقات مع سوريا، تلك الدولة التى تربطها بمصر علاقات قديمة وقوية، بسبب موقفه من النظام الحاكم هناك، ودعمه للمعارضة الإسلامية السورية، ثم مالبث ان عقد اجتماع مع عدد من زعماء التيار الإسلامى لبحث سبل معالجة أزمة سد النهضة الإثيوبى، حيث ناقشوا على الهواء مباشرة إمكانية القيام بعمل عسكرى ضد إثيوبيا أو دعم جماعات المعارضة هناك ضد النظام الإثيوبى مما أدى إلى احتقان الوضع أكثر مما يحتمل وظهور هؤلاء بمظهر الهواة أمام الشعب، بمناقشتهم أموراً تمس الأمن القومى المصرى عياناً بياناً أمام العالم أجمع... قد يبدو الأمر من وجهة النظر الغربية أن ما حدث هو انقلاب على الديمقراطية بمعناها الحرفى الليبرالى الذى يعرفونه، لكن الإشكالية الحقيقية فى إدراك العالم العالم الغربى وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية لما حدث، هو أن فكرة الديمقراطية لاتزال مرتبطة عند معظم الناس وبالأخص لدى التيار الإسلامى، بآليات الإختيار السياسي عن طريق صناديق الإقتراع فقط، متناسين أن أصل معنى كلمة الديمقراطية هو "حكم الشعب لنفسه"، وهو ما قام به شباب مصر حين رفضوا استمرار نظام الإخوان المسلمين فى حكم مصر، ليجنبوا مصر المزيد من الفشل، خاصة أن مصر لا تحتمل المغامرات السياسية والاقتصادية، وكان على الجيش أن يتدخل لمنع الصدام بين كل الأطراف وليكون بمثابة حائط الصد ليمنع صدامات متوقعة قد تصل إلى حد الحرب الأهلية، ذلك أن المؤسسة العسكرية لازالت حتى الآن هى المؤسسة الوحيدة التى تتمتع بثقة واحترام الشعب المصرى، لكن الصدام حدث بين الإسلاميين والجيش، ليظهر صورة عنيفة للمنتمين لهذا التيار وفقدانهم للحكمة السياسية، مما يثير التساؤلات حول مدى حاجة المجتمع المصرى لقيادة سياسية من الإنتحاريين، وهو الأمر الذى قد يدفع باقى المجتمع لرفضهم لمدة عقود بعد أن سقط العديد من القتلى أثناء أحداث الحرس الجمهورى يوم السابع من يوليو الجارى... ويبقى السؤال الذى يطرح نفسه الآن وبقوة، هل تسعى المؤسسة العسكرية فى مصر إلى إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية، ودفع الحركة السياسية إلى تحقيق ديمقراطية ليبرالية بالمعنى الدقيق للكلمة، أم أن ما يحدث ليس سوى رفض لاستمرار جماعة لاتثق بها المؤسسة العسكرية لاعتبارات أمنية بسبب تحالفات تلك الجماعة مع جهات خارجية أخرى، يعتبرها الجيش غير مقبولة من ناحية الأمن القومى المصري، وأن إنهاء عصر الإخوان قبل أن يبدأ لا يعنى على الإطلاق السماح بتطور ديمقراطى حقيقى، بل وقد يعكس رغبة دفينة فى إبقاء الوضع السياسي على ما كان عليه أيام مبارك وسابقيه وتلك هى الديمقراطية الأخرى... [email protected] لمزيد من مقالات أحمد محمود