تعودت من زمن بعيد وقبل أن أطالع رسائل أصدقاء بريد الجمعة أن أتحصن وراء ساتر نفسي قوي يحميني من الانفعال والاستغراق فيما قد تحويه تلك الرسائل عادة من أحداث يدمي لها القلب والعقل, ومع ذلك هناك رسائل أجدني أقف عاجزا أمام أحداثها, بل أكاد أعيش مع أبطال وقائعها المؤلمة, حتي أكاد أشعر انني أصبحت جزءا من تلك المشكلة, أو طرفا فيها.. ورسالة اليتيمة هي واحدة من تلك الرسائل التي لا تملك الا أن تتفاعل مع أحداثها, وتتعاطف مع صاحبتها, لأنها تحمل الكثير من المعاني والمشاعر البريئة لفتاة صغيرة في العشرين من عمرها, شاءت إرادة المولي عز وجل أن يرحل والدها عن الدنيا, وهي لاتزال طفلة في العاشرة, فكانت تلك صدمتها الأولي التي أفاقت منها لتجد نفسها وقد فقدت الأب الحنون والقدوة والسند القوي أمام حياة قاسية لا ترحم, ومرت الأيام وكبرت الصغيرة مع احساس تعاظم معها بمرور الزمن بأنها يتيمة, وبلا سند حقيقي يحميها من تقلبات الزمن, ومع ذلك فقد حاولت قدر استطاعتها أن تترجم أحزانها لفقد والدها الي طاقة ايجابية تساعدها علي النجاح في الحياة, وكرست حياتها للعلم والدراسة مما جعلها تتفوق علي زميلاتها في المدرسة والجامعة, ولكن الاحساس باليتم وافتقاد القدوة والرمز ظل كامنا بداخلها, حتي صار يشكل فراغا نفسيا هائلا كان هو السبب الرئيسي في اندفاعها الي الاعجاب بأحد المعيدين الذين يحاضرونها في الجامعة, كحل لا إرادي لملء الفراغ الداخلي, وسرعان ما تحول هذا الاعجاب الي حب غير متكافيء من طرف واحد أوقعها في صدمة أخري, لا تقل عن صدمتها الأولي, عندما فوجئت بهذا المعيد يتقدم لخطبة فتاة أخري أعجب بها وقرر الارتباط بها!!.. وكان من الطبيعي أن تجد تلك الفتاة الصغيرة نفسها ضحية وأسيرة لقضيتين متزامنتين وعلي نفس القدر من الأهمية وهما احساس متناه باليتم وشعور جارف بحب من طرف واحد لم يعلن عن نفسه, وهي بعد غير مسلحة بأدني أسلحة الخبرة والحكمة للتعامل معها.. ويبدو أن الحمل كان أكبر مما تتحمله بنت العشرين البريئة الطاهرة فلم يكن أمامها سوي أن تصرخ من أعماقها طلبا للمساعدة أو النجدة فيما يصفه علماء النفس بإيجابية التعامل مع المشاكل الحياتية بطلب النجدة من الآخرين عندما يستلزم الأمر ذلك. وتلبية لهذا النداء أرجو من صاحبة الرسالة أن يتسع صدرها لتحليل وتفسير ما حدث في الواقع لنري حقيقة دوافعه وتداعياته لعلنا نساعدها في الخروج من أزمتها, والاستفادة من الماضي, ليكون درسا مستفادا للمستقبل.. والقصة لها شقان متلازمان: الشق الأول في تلك القصة هو الاحساس المتعاظم باليتم والشعور بالدونية لافتقاد القدوة والسند في الحياة, وهي قضية نفسية يجب أن نتعامل معها بطريقة واقعية, باعتبارها أولا وأخيرا إرادة الله الذي لا راد لقضائه, وأنه ليس أمامنا سوي الرضا بما قسم الله, ومن الحكمة والعقل أن نركز علي الجانب المضيء في تلك المحنة, وهو أن اليتيم أمانة الله في المجتمع, وأن النبي صلي الله عليه وسلم ولد يتيم الأب ثم ما لبث أن فقد أمه وهو في سن السادسة من عمره, ولعل في ذلك مواساة لكل يتيم من أمته, فعندما يعلم الطفل اليتيم أن خير وأفضل البشر ولد يتيما فإن في ذلك أسوة له ومواساة ودافعا علي الاقتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم, ولقد كانت عنايته ووصايته صلي الله عليه وسلم بالطفل اليتيم من خلال أقواله وأفعاله ومواقفه عناية لم يشهد التاريخ لها مثيلا فقال صلي الله عليه وسلم خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه, وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه وقوله تعالي وأما اليتيم فلا تقهر, وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أتي النبي صلي الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه فقال صلي الله عليه وسلم: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك.. وعن ابن عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:( إن اليتيم إذا بكي اهتز لبكائه عرش الرحمن, فيقول الله تعالي لملائكته: يا ملائكتي, من ذا الذي أبكي هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب, فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم, فيقول الله تعالي لملائكته: يا ملائكتي, أشهدوا أن من أسكنه وأرضاه.. أنا أرضيه يوم القيامة) فهل بعد كل ذلك يا صغيرتي يعتصرك كل هذا الألم لمجرد أنك يتيمة!! أما عن الشق الثاني في القصة وحب بنت العشرين بأحلامه وأوهامه الذي حلق بك في السماء وهو حق لا ينكره عليك أحد.. ولكنه حب ولد ومات دون أن يشعر به أحد سواك.. لأنه كان من طرف واحد هو طرفك أنت.. وأغلب ظني أنك كنت تبحثي في هذا الحب عن نوع خاص من الحب والاهتمام من أحلامك الذي سينتشلك من أحزانك ويذهب بك بعيدا.. ولكن المعادلة كانت غير متكافئة فكان هذا المعيد لا يري فيك سوي احدي طالباته المتميزات, وعندما حانت ساعة تفكيره في الارتباط اتجه الي من اختارها قلبه وعقله لتشاركه مشوار حياته, ولا لوم عليه في ذلك.. وأنا علي يقين أن هناك من ينتظرك ويستحق أن يرافقك في مشوار حياتك, ومن المؤكد أن كل شيء كتبه الله لك في موعد ومكان لا يعلمه سواه جل في علاه.. وينصح علماء النفس كل الشباب والشابات ألا يتسرعوا في الاقدام علي الارتباط وبناء حياة أسرية جديدة قبل أن يشتد عودهم وتنضج أفكارهم, وتكون لديهم الخبرة والحكمة لاختيار شركائهم في الحياة علي أسس وقواعد تتناسب مع ما يقره العقل والقلب معا.. ويعتقد البعض أن سن الخامسة والعشرين هو أفضل توقيت عمري لضمان سلامة وصدق الاختيار وإن كان لكل قاعدة شواذ.. فانهضي يا ابنتي وجففي دمعك واشحني بطاريتك وابتسمي للحياة تبتسم لك, فلا يزال مشوارك مع الحياة طويلا بإذن الله ولعل تلك التجربة قد زادتك صلابة وحنكة, وصدقيني أنه سيأتي يوم قريب ستضحكين فيه من كل قلبك علي الكثير مما يحزنك الآن, وستكتشفين أن هناك العديد من الأمور الحياتية العارضة التي لم تكن تستحق أن تذرفي من أجلها كل هذه الدموع الغالية.. مع تمنياتي لك بالسعادة والصحة والعافية.. د. هاني عبد الخالق أستاذ إدارة الأعمال [email protected]