كما تتفتح أوراق الوردة, تتكشف بالتدريج وبالتوازي عوالم رواية علاء الأسواني الأخيرة نادي السيارات( الصادرة عن دار الشروق). ما ذكرته للتو ليس صورة شعرية, بل تشبيه توضيحي للتكنيك الذي اتبعه الأسواني في سرد أحداث روايته, إنه يحرص علي الاتساع الأفقي للعمل, وألا تأخذه حكاية شخصية ما, مهما تكن رئيسية, فيمضي بالحكي عنها شوطا بعيدا, بل يقطع حكايتها مؤقتا في منتصف الحدث, وينتقل إلي شخصية أخري وعالم آخر. ولا أعتقد أن ما دفعه إلي ذلك مجرد التشويق, بل هو أسلوب في البناء, قد يكون الهدف منه أن تتفتح كل العوالم الثانوية التي تشكل الرواية معا بقدر المستطاع كما تتفتح أوراق الوردة فتزداد أريجا علي أريج, وهو شكل اتهمه البعض بأنه مصنوع ولا مبرر له, بينما أراه استلهاما لبعض ظواهر الطبيعة, وفي الوقت نفسه أذكر صاحب هذا الرأي أن الشكل في الفن غاية ومتعة جمالية في ذاته, وإن كان من حقه بالطبع كمتذوق ألا يستسيغ الشكل الذي ارتضاه المؤلف لنفسه. أما من ناحية المضمون, فالعمل يتحدث عن العبودية, من منظورها الاجتماعي والسياسي, من خلال إطار خارجي هو نادي السيارات في القاهرة, وهو مؤسسة أجنبية استعانت بمنظومة الخدمة في القصور الملكية بديلا رخيصا وكفؤا لاستيراد خدم أوروبيين, وهنا تظهر شخصية الكوو وهي كلمة تعني السيد بالنوبية يطلقها الخدم المجلوبون من جنوب مصر علي رئيسهم الذي علمهم فلسفة الذل أسلوبا للحياة. هو قاسم محمد قاسم كبير شماشرجية الملك فاروق وأقرب المقربين إليه, الذي ينحني بكل خضوع للملك وللسيد الأجنبي, بينما يتطاوس كإله وهو يستعرض رعاياه من خدم القصور و نادي السيارات ويبطش بهم لأقل هفوة ويستمتع بإذلالهم وهنا أتوقف مؤقتا عن مناقشة محتوي العمل, لكي أستعرض الشخصيات. الكوو شخصية مسطحة تمثل بعدا واحدا, وكذلك عبدون الخادم الثائر عليه, لكن هذا لا يعني كما يري البعض أن شخصيات العمل بشكل عام دمي أو أقنعة لأفكار مجردة, فالكوو وعبدون وآخرون شخصيات ثانوية, ولا يخلو عمل من شخصيات ثانوية مسطحة, أما الشخصيات الرئيسية, وبالذات تلك التي لا تعبر عن أفكار ومثل معينة, فهي شديدة الحياة والإمتاع: محمود همام مثلا وصديقه فوزي اللذان أوقعهما غباؤهما في مصائب بدأت مضحكة وانتهت كارثية, عائشة امرأة علي حمامة البقال, التي تجمع بين لسان قبيح وقلب رقيق وجسد مهووس بالجنس وحريص علي الوفاء للزوج. قد يتساءل البعض: وما علاقة هؤلاء بالموضوع؟ وأرد بأن هذه إحدي حسنات الرواية( التي اتهمت فيما اتهمت بعبوديتها للفكرة): فمن حسنات أي رواية أن تكون الحياة أهم أبطالها, مغامرات ياسين أحمد عبدالجواد مثلا, هل هي تعبير عن المنظور السياسي والاجتماعي للثلاثية؟ إن الخروج عن الموضوع بعض الشيء يضخ في الأدب الحياة. عودا إلي الموضوع, تبدأ الثورة علي منظومة العبودية والذل التي يفرضها الكوو باستمتاع علي عبيده من خدم نادي السيارات, حين يقوم عبدون الخادم الجديد الذي سيتضح قرب النهاية أنه مزروع من خلية ثورية لالتقاط صور فاضحة للملك فاروق في النادي يقوم خطيبا في زملائه مطالبا بإلغاء عقوبة الضرب والإذلال البدني لخدم النادي والتي يطبقها حميد تابع الكوو يرتاع الخدم حين يعلن عبدون ذلك في المقهي علي رءوس الأشهاد, فالكوو له ألف عين وألف أذن, ولا يفلح عبدون أبدا في أن يضم أكثر من7 مؤيدين لدعوته, ينتهي بهم وبه الحال إلي الاعتقال, بعد انكشاف أمر الخلية الثورية, حيث يتلقون من التعذيب والإذلال ما تلقوا, لكنهم في النهاية ينتقمون من الكوو بضربه ثم قتله, وبمشهد الكوو وقد اخترقت رصاصة جبهته وانفرجت شفتاه تنتهي الرواية. ولكن لا ينتهي الكلام.. فهناك شخصيات أخري وقضايا أخري في غاية الأهمية, من حيث الشخصيات سأركز علي شخصيتين فقط لضيق المساحة ولارتباطهما بقضية فنية. كامل عبدالعزيز همام وصالحة أخته, تبدأ بهما الرواية في مقدمة لا لزوم لها يطالبان فيها المؤلف بأن يحكيا هما حكايتهما بدلا منه, ولا أري إطلاقا وجه احتياج الأسواني لأن يستعير من بيرانديللو( راجع6 شخصيات تبحث عن مؤلف) وقد كان في استطاعته أن يفعل ما فعله في فصول الرواية المعنونة باسميهما ويتركهما يحكيان كما حكيا دون الحوجة للجوء لأي مقدمات. الزائدة الثانية, التي أراها بلا مبرر فني, حكاية اختراع السيارة وبطلاها الألمانيان كارل بينز مخترع السيارة وزوجته بيرتا, التي خصص لها الأسواني الفصل الأول لروايته, ولو كان بدأ بإنشاء نادي السيارات في القاهرة لكان أصوب, حيث إن الموضوع ليس هو السيارة في ذاتها, ولكن نادي السيارات كمكان لوقوع الأحداث, وهي أحداث غير مرتبطة بالسيارات كاختراع. تبقي كلمة أخيرة, أسجل فيها إعجابي بالعمل وشكري لكاتبه علي المتعة الفنية التي وفرها لي ولغيري, وأشكره بالذات علي أنه بدلا من العبودية للفكرة, كما يتهمه البعض, قد فتح روايته للحياة وتنوعها الإنساني فعرفنا علي عم علي حمامة البقال وزوجته عائشة وابنهما فوزي وابنتهما فايقة, كما عرفنا علي الجيران كامل عبدالعزيز همام وأخته صالحة وأخيهما الأصغر بطيء الفهم قوي العضلات محمود عبدالعزيز همام الذي يتمتع بقلب لا يماثل ذهنه في البلادة.. وتلك مصيبته