كنا حتي وقت قريب نعتقد أن الفوضي التي تضرب مصر هي بلة. والخطورة في كل هذا أننا ننظر تحت موضع أقدامنا فلا نري ما هو أبعد وأعمق وأخطر. أحد الأشراك التي ننصبها بأنفسنا لأنفسنا هو المبادرة المعروفة باسم تمرد بهدف جمع عدد من الأصوات المطالبة بسحب الثقة من رئيس الجمهورية تزيد علي عدد الأصوات التي اختارته في الانتخابات الرئاسية التي جرت منذ عام. ابتداء ليس في هذه الوسيلة بذاتها ما يتعارض مع( روح) النظام الديمقراطي لكنها في الحالة المصرية لا تستند إلي آلية دستورية أو قانونية تنص عليها مثلما تفعل بعض النظم الدستورية التي تجيز ذلك للبرلمان بشروط وإجراءات معينة كما في المادة61 من الدستور الألماني والمادة68 من الدستور الفرنسي.. ومن السهل علي معارضي المبادرة التشكيك فيها لأنها تفتقر الي الكثير من الإجراءات والضمانات التي تتوافر في حالة التصويت من خلال صندوق الانتخابات. قد تمثل هذه المبادرة ضغطا سياسيا أو أدبيا علي رئيس الجمهورية لكن المعارضين لها لن يعدموا تقديم عشرات الحجج التي تجردها من أي قيمة دستورية أو قانونية. يبقي أثرها السياسي في محاولة دفع رئيس الجمهورية لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة لكن اللجوء لفكرة الانتخابات المبكرة في الديمقراطيات الأخري غالبا ما ينصب علي الانتخابات البرلمانية وليس الرئاسية, وذلك عقب سحب الثقة من الحكومة أو كمخرج لتعذر تشكيل حكومة حزبية لا تتوافر لها الأغلبية البرلمانية او حكومة ائتلاف وطني يتعذر توافق الأحزاب بشأنها. أما الحالة الفرنسية الخاصة باستقالة الرئيس ديجول فكانت مرتبطة باستفتاء شعبي طرحه هو مطالبا بصلاحيات رئاسية وعندما رفض الشعب ذلك بادر ديجول بالاستقالة في كبرياء عظيمة. لكن وجه الخطورة في مبادرة تمرد يتجاوز كل هذه المبررات القانونية النظرية بل وأية حالات مشابهة في دول اخري ليثير تداعيات سياسية مقلقة وربما مفزعة علي حاضر مصر ومستقبلها. فالمسألة ببساطة أنه إذا جاز لفريق سياسي اليوم القول بأن عرائض سحب الثقة يمكن أن تحل محل صندوق الانتخابات, فما الذي يمنع فريقا سياسيا آخر من المطالبة غدا بسحب الثقة من رئيس ينتمي لتيار سياسي مخالف؟ أي مستقبل للديمقراطية في مصر اذا لم نستطع تحمل نتائج صندوق الانتخابات لمدة أربع سنوات؟ قد يرضي نجاح حملة تمرد المعارضين لحكم الرئيس وهذا حقهم لكنه سيؤيد التجربة الديمقراطية في مصر وسيكون مؤشرا( مبكرا) علي أنه لن تكتمل مستقبلا مدة رئيس منتخب في مصر. إن كلمة( ترسيخ) الديمقراطية تعني الاحتكام لصندوق الاقتراع مرة واثنتين وعشرا ومن الوارد ان تفشل الشعوب أحيانا في اختيارها لكن هذا الفشل سيفيدها في تصويب اختيارها في المرات المقبلة, وهذا في ذاته درس ديمقراطي آخر. فالديمقراطية لا تمارس فقط بنجاح الشعوب في اختيارها بل بفشلها أيضا. تبقي حجة الخوف من ارتداد التيار الإسلامي علي المبدأ الديمقراطي. وهذه حجة يثبت لنا كل يوم أنها غير مقنعة لان تأثير التيارات المدنية والليبرالية يسري بقوة في أوصال المجتمع المصري وحواجز الخوف سقطت الي غير رجعة. والدليل هو ما تقوله المعارضة نفسها من أنها علي وشك جمع أكثر من 10 ملايين توقيع لسحب الثقة من الرئيس. أما الخوف علي نزاهة العملية الانتخابية فلا يبدو مبررا في ظل الإشراف القضائي علي الانتخابات. استخلص هذا من ارض الواقع لا من باب التأمل فابني وكيل النيابة ظل واقفا علي قدميه لمدة22 ساعة مشرفا علي الانتخابات الرئاسية كانت نتيجة الفرز في لجنته الفرعية بالإسكندرية هي حصول المرشح حمدين صباحي علي نحو 80% من اعداد المقترعين في الوقت الذي لم يكن لحمدين صباحي ممثل عنه في هذه اللجنة الفرعية الصغيرة! يقول البعض إن صندوق الانتخابات ليس هو كل الديمقراطية, وهذا صحيح, لكن الصحيح أيضا انه لا ديمقراطية أساسا بدون صندوق الانتخابات. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم