علي مر تاريخنا الفكري والحضاري إذا قيل حجة الإسلام انصرفت الأذهان كل الأذهان إلي أبي حامد الغزالي,450 505 ه1058 1111 م].. ذلك أن هذا الإمام العظيم قد تحول في تاريخنا الحضاري إلي ظاهرة فكرية دائمة العطاء والتأثير منذ عصره, حتي عصرنا الراهن, وإلي أن يشاء الله. كان الغزالي أشعريا وإمام الأشعرية هو أبو الحسن الأشعري,260 324 ه874 936 م] الذي استقطب مذهبه90% من المسلمين.. لكن الغزالي كان أبرز العلماء الذين طوروا الأشعرية, وأضافوا إليها جرعات من العقلانية الإسلامية المؤمنة, جعلت العقلانية اليونانية اللادينية هامشا معزولا في حياة المسلمين.. وكان الغزالي شافعيا.. وكان الإمام الشافعي محمد بن إدريس ,150 204 ه767 820 م] هو واضع أساسات علم أصول الفقه في كتابه, الرسالة].. فجاء الغزالي ليفصل قواعد هذا العلم في كتابه, المستصفي من علم أصول الفقه].. وكان الغزالي فيلسوفا, لكنه تصدي بالنقد الشديد لبعض مقولات الفلسفة اليونانية التي رآها خارجة عن ثوابت عقائد الإسلام وذلك في كتابه الشهير, تهافت الفلاسفة].. وكان الغزالي صوفيا.. ولم يكن التصوف عنده كتبا تقرأ أو تؤلف.. وإنما كان تجربة من المعاناة الفكرية, والمجاهدات الروحية, أثمرت التصوف الحقيقي الذي تمثل في تزكية النفس والقلب, والصعود علي درب المقامات والأحوال نحو القرب من صفات الجلال والكمال والجمال لواهب الوجود كل موجود.. ولقد أفرد الغزالي لتجربته الروحية هذه كتابه الفذ والمتميز عالميا:, المنقذ من الضلال].. ومع استخدام الغزالي للمنطق اليوناني, فإنه سعي وإن بشكل جزئي لوضع لبنات في منطق إسلامي متميز بحكم تميز اللغة والعقيدة وذلك في كتبه, القسطاس المستقيم] و,ميزان العمل] و, معيار العلم]. ولقد عاش الغزالي في أحضان الأمة, عزوفا عن الدولة والسلطان.. لكنه كان إماما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, داعيا العلماء إلي مقاطعة أمراء الجور ولاة الاستبداد.. ولقد أبرز في كتبه المرويات النبوية التي تدعو إلي استقلال العلماء عن الأمراء, والتي تستنكر موالاة العلماء لولاة الجور والظلم والفساد والاستبداد.. وذلك من مثل: لا تزال هذه الأمة بخير, تحت يد الله وكنفه, مالم تمالئ قراؤها , علماؤها] أمراءها.. وإن الله لعن علماء بني إسرائيل اذ خالطوا الظالمين في معاشهم.. واللهم لا تجعل لفاجر عندي يدا فيحبه قلبي.. وأبغض القراء , العلماء] إلي الله تعالي الذين يزورون الأمراء, وخير الأمراء الذين يأتون العلماء, وشر العلماء الذين يأتون الأمراء.. والعلماء أمناء الرسل علي عباد الله مالم يخالطوا السلطان, فإن فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل, فحذروهم واعتزلوهم.. وإن الله ليغضب إذا مدح الفاسق.. ومن أكرم فاسقا فقد أعان علي هدم الإسلام.. ومن دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه.. ولتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر, ولتأخذن علي يد الظالم, ولتأطرنه , تجبرونه] علي الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض, ثم تدعون فلا يستجاب لكم.. وإذا رأيتم الظالم فلم تأخذوا علي يديه يوشك الله أن يعمكم بعذاب من عنده.. إلي آخر هذه المأثورات النبوية, التي تحولت في فقه حجة الإسلام الغزالي إلي دستور يدعو إلي استقلال العلماء عن الأمراء ليظل العلماء دائما وأبدا في مكان الشاهد المراقب للدولة, والناقد لانحرافاتها, والمصحح لمسيرتها, والمدافع عن المظلومين.. ولقد عاش الغزالي في عصر تنكر فيه بعض الصوفية للعقل والعقلانية.. وتنكر فيه تيار من الفلاسفة للشرع الإلهي.. فصاغ الغزالي الموقف الإسلامي الجامع بين العقل والشرع صياغة فلسفية بل فنية كأنها لوحة أبدعتها ريشة فنان.. وذلك عندما قال: إن مثال العقل كمثال البصر السليم.. وإن مثال القرآن والشرع كمثال الشمس المنتشرة الضياء.. فمن له عقل أي بصر دون شرع فهو كالمبصر الذي يسير في الظلام ومن كان له شرع أي ضياء دون عقل وبصر فهو كالأعمي الذي يسير في وضح النهار!.. ثم أضاف الغزالي العبارة التي تصلح عنوانا لهذه اللوحة الفنية, فقال: فالعقل مع الشرع نور علي نور!.. ولقد رأي الغزالي خطر الجمود والتقليد علي حيوية وفاعلية العلوم الإسلامية, فدعا إلي تجدد هذه العلوم وإحيائها, وأبدع في هذا المقام موسوعته الفريدة, إحياء علوم الدين].. هذا الكتاب الموسوعي الذي تناول فيه إحياء علوم العقل.. والنقل.. والقلب والوجدان.. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ودستور العلماء والأمراء.. ولقد عرف علماء هذه الأمة منذ عصر الغزالي حتي اليوم خطر هذا الكتاب ومكانته المتميزة.. حتي أن الشيخ محمد مصطفي المراغي,1298 1364 ه1881 1945 م] عندما تخرج في الأزهر, ورشحه أستاذه الإمام محمد عبده,1266 1323 ه1849 1905 م] ليكون قاضيا في السودان, وإذا ذكر ابن عربي,560 638 ه1165 1240 م] خطر بالبال رجل صوفي له في التصوف آراء لها خطرها. وإذا ذكر البخاري,164 256 ه810 870 م] ومسلم,206 260 ه820 875 م] وأحمد,164 241 ه780 855 م] خطر بالبال رجال لهم قدرهم في الحفظ والصدق والأمانة والدقة ومعرفة الرجال.. أما إذا ذكر الغزالي, فقد تشعبت النواحي, ولم يخطر بالبال رجل واحد, بل خطر بالبال رجال متعددون, لكل واحد منهم قدرته وخطره, يخطر بالبال الغزالي الأصولي الحاذق الماهر, والغزالي الفقيه الحر, والغزالي المتكلم, إمام السنة وحامي حماها, والغزالي الاجتماعي الخبير بأحوال العالم وخفيات الضمائر ومكنونات القلوب, والغزالي الفيلسوف الذي ناهض الفلسفة وكشف عما فيها من زخرف وزيف, والغزالي الصوفي الزاهد. وإن شئت فقل: إنه يخطر بالبال رجل هو دائرة معارف عصره, رجل متعطش إلي معرفة كل شيء, نهم إلي جميع فروع المعرفة. تلك شهادة عالم فذ علي مكانة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في تراث الإسلام.. مكانة دائرة المعارف والظاهرة الفكرية المستمرة, والسارية في عقول الأمة وقلوبها علي امتداد القرون.. وهذا درس نتعلمه في التأسي بسير العلماء.. والاستفادة من كنوز علم هؤلاء العلماء. لمزيد من مقالات د. محمد عمارة