تحت عنوان سكة السلامة وسكة الندامة أمام الثورة المصرية, كتبت قبل ثمانية أشهر أقول إن مصر بعد ثورة25 يناير تبدو أمام مفترق طرق عليها أن تختار عنده بين الارتقاء إلي سكة السلامة, أو الانزلاق الي سكة الندامة; وللأسف فقد أخذت مصر تنزلق إلي سكة الندامة, وخاصة مع إخفاقات المجلس العسكري الأعلي في إدارة فترة الانتقال. فقد تباطأ المجلس في تقديم مبارك ورموز نظامه والمسئولين عن قتل شهداء الثورة الي المحاكمة, حتي أتهم بالتواطؤ, ولم تبدأ المحاكمات إلا بعد موجة ثورية جديدة, ثم تباطأت إجراءات المحاكمة دون مبرر!! ورغم مرور نحو عام علي الثورة لم تصدر أحكام ضد قتلة الشهداء, ولم يكشف الستار عن هوية القناصة الذين اغتالوا الثوار بدماء باردة, ولم يعرف من كان وراء إعلان مخطط الفتح العسكري التعبوي لسحقهم, ثم برئت ساحة مبارك رغم توالي تصريحات المجلس العسكري الأعلي بأنه رفض إطلاق النار علي الثوار!! وقد استمر تفاقم الفوضي الأمنية ولم تتخذ الإجراءات الواجبة لتطهير جهاز الشرطة ليخدم الشعب ويعيد الأمن, واستمرت نزعة الحل القمعي بدلا من التعامل السياسي مع احتجاجات سلمية. ورغم محاكمة بعض رموز الفساد فان يد العدالة قد غلت ولم تستهدف شبكة الفساد المنظم, وتباهت الحكومة بانجازات النظام الاقتصادي السابق رغم إخفاقاته الجلية, وواصلت سياسات السوق الحرة المهدرة للكفاءة والعدالة. ولم يسترد أي من الأموال المنهوبة, واستمرت خطايا تحرير قطاع المال, ولم تتخذ الإجراءات اللازمة لمنع تهريب الأموال; وتضاعف نزيف هروب رؤوس الأموال, المضاربة والمنهوبة, فكان تآكل الاحتياطي النقدي وخطر الإفلاس. وبدلا من البدء الواجب بوضع دستور جديد يعبر عن جميع مكونات الأمة ويضمن بناء دولة المواطنة المدنية, غير الدينية وغير العسكرية, جاء قرار تشكيل لجنة لتعديل الدستور, الذي كشف عدم وقوف المجلس علي مسافة واحدة من القوي السياسية. ثم طرح المجلس استفتاء حسمت نتيجته مسبقا بترويع الأمة من مغبة استمرار الفوضي, وحديث الإفك بأنه اختيار بين الإيمان والاستقرار أو الكفر والفوضي!! ولم يواجه بالردع خطاب التحريض الديني الذي أشعل نيران الفتنة الطائفية بنشره ثقافة كراهية الآخر, ووأد دعاة دولة الفقهاء الدينية فرص التوافق علي بناء دولة المواطنة المدنية. وبجانب فقدان الثورة قيادة يتوافق عليها المصريون وتتبني رؤية لبناء نظام جديد يحقق أهداف الثورة, تصاعد خطاب جملة ثورية يحرض علي صدام مع العسكر أفاد منه خصوم وخاطفو الثورة!! ولا جدال أن نتيجة الاستفتاء علي التعديل الدستوري قد صارت عنوان الحقيقة, فكان لا بد من احترامها. لكنني تبنيت مع غيري حلا وسطا يلتزم بإرادة الأغلبية التي قالت نعم, ولا يتجاهل حق الأقلية التي قالت لا. وقد أعلنت أن ما تضمنه الإعلان الدستوري يمكن تعديله, بالبدء بانتخاب الرئيس للإسراع بنقل السلطة, وتأجيل انتخابات البرلمان لتحقيق تكافؤ الفرص أمام الوافدين الجدد إلي ساحة المشاركة السياسية من قوي ثورية وأحزاب سياسية مدنية, وانحزت إلي ضرورة أن لا يعبر الدستور عن أغلبية برلمانية أيا كانت, وأن يراعي هذا في تشكيل وعمل الجمعية التأسيسية للدستور! ورفضت الأحزاب والتيارات الدينية دولة المواطنة; التي تحمي جميع حقوق المواطنة لجميع المصريين, دون تمييز أو تهميش. ولم تقتلع أسباب الانفلات الأمني, واشتد التحريض علي شباب الثورة وتشويه صورتهم مع صورة الثورة ذاتها, مع لغو مبهم عن ثوار أطهار بدوا أشباحا!! واستخدمت القوة المفرطة في مواجهة الاعتصامات والمظاهرات السياسية السلمية, وأهدرت العدالة الناجزة في محاكمة من قتل ودهس واغتال وسحل وسفك دماء وفقأ عيون وهدر كرامة شباب مصر قبل وبعد الثورة. ولم ينظر إلي المطالب الاقتصادية والاجتماعية لمحدودي الدخل والفقراء باعتبارها تعبيرا عن البعد الاجتماعي للثورة, وصورت علي أنها مجرد مطالب فئوية تهدد الإنتاج والاستقرار, واعتمدت موازنة للدولة كرست سياسات الانحياز للأثرياء علي حساب الفقراء. واستمر التقاعس في مكافحة الفساد المنظم ومحاكمة المسئولين عنه, وتواصل الرضوخ لنهج رجال الأعمال في خصخصة الأرباح وتعميم الخسائر. وبدون ردع واصلت القوي المعادية لثورة25 يناير, عملها علي نشر الفوضي والإنفلات الأمني وإفشال الثورة, وحرضت علي جرائم البلطجة وتمويلها, وأججت الفتن وإشعال حرائق الغضب والعنف, تدفعها نوازع الانتقام من ثورة أفقدتها سلطة ونفوذا وفرصا للنهب, وغير ذلك مما نسبه المجلس العسكري إلي طرف ثالث; لم يحدده ويحاسبه في أي مرة!! ولا جدال أن قوي عربية معادية للثورة تخشي علي عروشها, لم تتقاعس فقط عن تقديم ما وعدت به من دعم مالي واقتصادي, بل وتآمر شيوخها السلفيون علي تفكيك وحدة مصر الوطنية بتمويل دعاة إقامة دولة دينية في مصر. وتضافر هذا مع مواقف قوي تتوافق مصالحها مع تفكيك الدولة وإفشال الثورة كما تشير تصريحات اسرائيلية معلنة, ومع تمويل أجنبي أعترف به مسئولون أمريكيون, واستهدف اختراق المجتمع لتنفيذ أجندته, لكن الأهم, في سياق السعي لوأد الثورة, كانت خطيئة إشراك جنود الجيش في قمع المظاهرات والاعتصامات, فتداعت الثقة في المجلس العسكري, ثم فجرت جريمة سحل وتعرية متظاهرة مصرية غضبة نساء مصر وأثارت رجالها ذوي النخوة, ونالت من هيبته ليس في مصر وحدها وإنما في الدنيا بأسرها. ورغم كل ما سبق; لا تزال بارقة أمل في العودة لسكة السلامة; بأن يستوعب المجلس العسكري الأعلي معني الثورة; أقصد أنه لا يمكن له أن يواصل حكم الشعب بنفس الأساليب التي أسقطت شرعية حكم مبارك, وأن الشعب لن يقبل باستمرار أساليب ذات النظام, الذي أسقط شرعيته. وإدراك أن هدر كرامة مواطن مصري واحد يفجر طاقة غضب شباب الثورة مع تضامن شعبي يتضاعف في كل مرة, ولا بد وأن يوقف العنف في التعامل مع الاحتجاجات السياسية وخاصة بتدخل القوات المسلحة. وتطبيق العدالة الناجزة علي المسئولين عن جرائم قتل ودهس واغتيال وسحق وفقأ عيون وسفك دماء شباب مصر وانتهاك عرض بناتها. وبغير هذا سيستمر العداء وستبقي نزعات الانتقام المتبادل, ويتهدد كيان الدولة ذاتها, ببساطة لأن طلائع الثورة من الشباب يستحيل ردعهم, ولأن مطالب الثورة المغدورة توفر لهم سندا جماهيريا لا يستهان به. وعلي شباب الثورة الالتزام بسلمية الثورة المستمرة وضبط سلوك المنضمين اليها من صفوف العاطلين والمهمشين والمحرومين وأطفال الشوارع, الذين تركهم النظام السابق قنابل موقوتة. وينبغي وقف التحريض ضد شباب الثورة وتشويه صورتهم وشق صف الأمة, وتصفية البلطجة المنظمة التي ثبت أنها يمكن أن تختفي كما جري خلال الانتخابات!! وتقديم من تتوافر أدلة تدينه بالتورط في خدمة أجندات أجنبية معادية إلي القضاء, واحترام نتائج الانتخابات البرلمانية مع حماية حق المعارضة والمساءلة والمحاسبة; تعزيزا للاستقرار السياسي والنهوض الاقتصادي وتجنبا لمخاطر ثورة الجياع!! وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم