حين كنت صغيرا عشقت صندوق الدنيا, كنت وأبناء جيلي نهرول وراء صاحبه وهو يحمله علي ظهره المتعب من شارع لآخر ليحكي لنا بالصور الجميلة وبصوته الواهن قصصا تراثية مشوقة. وحين شببت عن الطوق تفتحت عيناي علي صندوق دنيا من نوع آخر, يحمله صاحبه داخل عقله, ويبث حكاياته عبر الورق ليخلق اتصالا فكريا طريفا ومثمرا ومفيدا مع الآخرين. وبالأمس جاءني من يقول لي إن صندوق الدنيا أنهي حكاياته وأغلق شباكه إلي الأبد. إن أحمد بهجت مدرسية فكرية تجمع بين الكتابة الصوفية والفن القصصي والكتابة الساخرة والفلسفة المبسطة, مدرسة تمتاز برشاقة الكلمة والأسلوب مع ايجازوبساطة يحولان دون ملل القارئ, ويشوقانه إلي متابعة ما يستجد من كتابات. وهو لايكتب لمجرد الكتابة وشغل حيز أومساحة وإنما لهدف أوضحه في سيرته الذاتية مذكرات زوج يقول: إن الكتابة عمل مسكر ورائع, فعندما يكتب المرء يشعر بأنه ليس وحيدا في العالم, لكنني لا أكتب لهذا السبب, إنني أكتب لأني أحس أن كل إنسان في العالم قد أضحي جزيرة منفصلة, ليس بينها وبين الآخرين اتصال. وبالفعل فقد أوجد أستاذنا الراحل اتصالا مستمرا مع ملايين من البشر, ولا أزال أذكر كيف كان والدي يقرأ كتابه أنبياء الله مرة تلو الأخري بلا ملل أو كلل, حتي ليبدو للرائي أنه يقرأه للمرة الأولي, وفتها لم أفهم سر تعلق الوالد بالكتاب حتي قرأته, ووجدته لا يروي تاريخا بالمعني الكلاسيكي للتاريخ, وإنما يسجل ثورات روحية قادها أنبياء الله بدءا من أبي البشرية آدم وانتهاء بخاتم الرسل والأنبياء محمد عليهم جميعا صلوات الله وسلامه, والشيء ذاته يفعله في أهل الكهف حيث يعيد كتابة تراثنا الديني بأسلوب مشوق مبسط يرضي مختلف الأذواق والأعمار. ثم إنه لم ينس البراعم الصغيرة التي طالما أحبها وعمد إلي توسعة مداركها الدينية, فكتب للأطفال سلسلة كتب بعنوان قصص الحيوان في القرآن مقدما مجموعة من أفراد المملكة الحيوان التي ورد ذكرها في كتاب الله وكان لها دور في تاريخ البشرية, مثل غراب أبني آدم وطائر إبراهيم عليه السلام وناقة النبي صالح وبقرة بني إسرائيل وحوت النبي يونس.. وغيرها. ونشهد مزجا فريدا بين الأساطير والإيمان والفلسفة والكوميديا والذكريات في كتابه حوار بين طفل ساذج وقط مثقف نجد التساؤلات الحائرة وإجاباتها بأسلوب سلس يفتح أمام الكبار والصغار نافذة فلسفية يشرفون عبرها علي فضاءات العالم الرحبة. وتتجلي روحه الساخرة الناقدة في كتاباته القصصية من أمثال ثانية واحدة من الحب وصائمون والله أعلم, وأسلوبه فيهما يذكر القاريء بالعملاق الروسي أنطون تشيخوف, وهذه الروح عينها تطالعنا أيضا في كتابيه مذكرات صائم وتأملات مسافر. وأعتقد أن القارئ لا يزال يتذكر التأثير الكبير لبرنامجه الإذاعي الساخر كلمتين وبس الذي كان يقدمه الفنان الكوميدي الراحل فؤاد المهندس, ومن خلاله عالج قضايا مهمة منتقدا السلبيات بأسلوب فكه يتقبله الآخرون. وكما بدأنا حديثنا عن الراحل بذكر صندوق الدنيا به ننهيه, إذ ظل أستاذنا أحمد بهجت ولسنوات طويلة يثري صفحات الأهرام بزاويته اليومية الأثيرة التي كانت تحمل هذا الاسم ويبدأ بها القارئ صباحه مع فنجال الشاي, وكانت أكثر زوايا الأهرام قبولا وإقبالا. إن الحديث عن كاتب عملاق مثل أستاذنا أحمد بهجت يحتاج إلي صفحات وصفحات, فقد أتعب الراحل مجادليه في ملاحقة نتاجه الصحفي والإبداعي, حيث بلغت مؤلفاته أكثر من عشرين كتابا, واستطاع ببراعة أن يجمع في كتاباته بين الدين والدنيا, وبين مخاطبة العقل والتوغل في الوجدان..يرحمك الله أستاذنا وفي جنة الخلد نلقاك إن شاء الله.