كلما هبت علي الأمة عواصف الظلام المقيدة للحرية والمعطلة للفكر, واضعة السدود للعقول ومنتهكة النفوس, يهفو الذهن إلي تجديد ذكري طه حسين( نوفمبر1889- أكتوبر1973) أحد أهم المفكرين العرب في القرن العشرين. , والذي نادي غفاة البشر من سبات الجهل وعتمته, ومنحهم قبسا من شعاع فكره, أسهم في الانتقال بالإنسان العربي من قيود الضرورة والتخلف والجهل والظلم, إلي أفق واعد من الحرية والتقدم والعلم والعدل. تنطوي سيرة حياة صاحب( الأيام), علي جملة مفارقات يتبدي فيها( السيرة) جدل الفكر التجربة, والتعاشق بين نصه الذي أنتج, وحياته التي عاش, حيث ذابت الفروق في شخصية ذاك الصعيدي ابن العائلة الفقيرة, بين الشيخ طه الأزهري أو طه بك خريج السوربون, الفرانكفوني الثقافة, المتفقه في ثقافته العربية الأم, الي حد الإمساك بالجذور الغائرة في أعماق الأرض العربية, موفقا بين الأصالة والمعاصرة: بين الإسلام عقيدة وفكرا خاصة توفيقية محمد عبده- وبين المنهج الديكارتي, والمنهج السوسيولوجي للمفكر الفرنسي دوركايم.. وداعيا لصياغة منهج الشك عند الجاحظ والغزالي والجمحي وابن خلدون والمعري ومارجليوث وديكارت. إنها خصوبة المخيلة المتحررة من المشاغل البصرية, بعدما أضرمت آفة العمي في نفسه ظمأ الي المعرفة لا سبيل إلي تهدئته وصبرا علي المكروه وطموحا لاقتحام المصاعب, والتسامح إزاء كل الثقافات- كما قال- بعدما وطن نفسه علي الاتجاه العقلاني والشك والتحقيق, واتسم تفكيره بالحرية والاجتهاد ونبذ الجمود, سارقا شعلة النار, مضيئا السبيل للمبصرين, فرضي قوم عن إسهاماته المتعددة وسخط عليها آخرون, فلم يوهن عزمه رضا أو سخط. اتسعت الحقول المعرفية وتنوعت آفاقها عند طه حسين مبدعا وأديبا, وفكره وفلسفته مفكرا وناقدا, وموقعه كاتبا إسلاميا واعيا وبلاغيا عميقا ولغويا بارعا, وكأنه يطل علينا من شرفات المعارف جميعا كما أطل الأفذاذ القدماء في إطار موسوعية العلم وتجدد الفكر والثقافة وتداخل معطياتها عبر تاريخ حضارتنا الزاهرة. كان عليه أن يجيب علي أسئلة شائكة ومصيرية تتعلق بالهوية والتاريخ والدين والعلم والفن والأدب والسياسة وغيرها. فهو رمز تماس الشرق بالغرب في النقطة الحرجة من علاقتهما, بوعي موار حاد وجريء جاء في وقته من السياق التاريخي لحركة النهضة العربية, ولما دخل ميدان السياسة الصاخب العنيف لم ينس أبدا أنه أديب مفكر لا سياسي محترف, في كل معاركه السياسية والفكرية, لإيمانه بدور العلماء في سياسة الدولة وشئون الحكم الصالح الذي يحقق العدل ويكفل رقي الشعب, متأثرا بدروس أستاذه دوركايم, وأفكار أتباع سان سيمون, مثلما لم يتورع عن الوقوف في وجه طاغية زمانه إسماعيل باشا صدقي, كاشفا عن قبح طبائع الاستبداد التي لا ينجم عنها إلا( الفتنة الكبري) و(المعذبون في الأرض), بعيدا عن( شجرة السعادة) و(دعاء الكروان)..! كان طه حسين متفائلا وهو يحدد في( مستقبل الثقافة في مصر) أسباب القوة التي يجب اكتسابها لتكون( المحروسة) جزءا من الحضارة الحديثة, ومنها التربية والتعليم- فلا مكان لطاغية أو لاستغلال طبقي في شعب متعلم- والاقتصاد وبناء الدولة علي فكرة المواطنة والدستور والنظام البرلماني والجيش القوي, بدعامة عقلانية وطيدة تكون نهجا يتجسد في المؤسسات, في التعليم واللغة والإعلام, وفي كل أجهزة الدولة بحكم أن الدولة هي الضامنة لتوازن المجتمع الحديث. ليس في استحضار طه حسين, والاحتفاء بذكري ميلاده, تكريس له بقدر ما هو شحذ لإدراكنا لمعطيات واقعنا الآني وموقعنا منه, وكأننا نحاول أن نفهم أنفسنا في مرآته( المبصرة)!.