هي ثورة ولم يكن المقصود أن تكون فوضي, هي ثورة لأنه كان من المنطقي لبلد بلغ درجة كبيرة من التحضر علي مر تاريخه ألا يرضي بأن يتدهور به الحال وأن يصبح مجرد وطن للعشوائية وسوء التخطيط والمصلحة الشخصية. لكن ما يحدث من منافسات سياسية ومزايدات اجتماعية يأخذنا بعيدا إلي منطقة من الفوضي. وهي منطقة لها قانونها الخاص وفاتورتها الباهظة. وبيننا في بر المحروسة من وجد أن عليه أن يدفع ثمن اهتزازات واضطرابات هذه الفترة الحرجة التي نعيشها. ومن بين هؤلاء كان الطفل عمر بائع البطاطا الذي لم يكن يعلم أن عمره الصغير لن يتجاوز سنوات الصبا. فكل ما كان يعنيه ويتخيله أنه ببيعه البطاطا في مكان قريب من الأحداث في محيط السفارة الأمريكية تزداد فرصته في الرزق حين ينجح في الحصول علي مكان دائم يبيع فيه بضاعته المتراصة في عربته الصغيرة. ولم يكن منطق عمر مختلفا عن غيره من أبناء مهنته, فكثير من الباعة الجائلين وحتي في أصعب أحداث الثورة كانوا يتوافدون إلي ميدان التحرير بحثا عن مساحة للرزق بين الثوار الذين لابد أن يفاجئهم الجوع حتي قبل أن يداهمهم التعب. ولم يكن في اختراق صفوف أهل التحرير مغامرة بالنسبة لهؤلاء الباعة الذين اعتادوا علي المطاردات والمشاجرات طوال حياتهم, بل علي العكس تماما فقد كان ميدان التحرير مجالا للرزق يفتح أمامهم فرصة لا تعوض لبيع ما عجزوا عن بيعه في الشوارع الهادئة. وكانت النتيجة أن انتهت حياة عمر برصاصة طائشة ليرتاح الصغير الذي عجز مجتمعه أن يوفر له المدرسة والبيت والأمان. أما إيمان فهي طفلة أخري لم تتجاوز الثامنة من العمر وابنة لأب معاق أرادت أسرتها ورغم نشأتهم ومعيشتهم في الريف أن يكون لها مكان في الحياة. وهي رغبة دفعت الأسرة المتواضعة لأن توفر من مصاريفها المحدودة لكي تحصل إيمان علي درس خصوصي وهي لاتزال في الثامنة من عمرها, إلا أن ما حدث كان مختلفا تماما عن توقعات العائلة. فلم تستطع إيمان أن تصل حتي إلي التاسعة من عمرها ولم يفهم المدرس الذي كان يتوافد علي منزله الفتيات الصغيرات أن في منزله ابنا لم يحسن تنشئته فقام بإغواء الطفلة بقطعة حلوي ليغتصبها ثم يقوم بذبحها ولتصبح إيمان مجرد قضية في ملفات القضاء ومجرد ذكري في بيتها وقريتها. ربما كان وضع إيمان أصعب من عمر الذي فاجأته الرصاصة الطائشة لكونها تعيش وسط قرية وناس ولم تخطئ عائلتها عندما أرادت أن تحسن تعليمها في مجتمع ريفي ربما كان تعليم الفتاة ليس هو أكثر ما يشغله. وبهذا تكون إيمان دفعت الثمن حين وثق أبوها في بيت المدرس وحين وثقت في كلام والدها بأن يوما يمكن أن تكون طبيبة أو مهندسة أو معلمة. فعمر وإيمان ليسا في النهاية إلا دافعين لثمن الحرية التي أردناها والتي بسبب خلافات واختلافات لا طائل من ورائها دفعا أبهظ ثمن. والغريب أن زهرة العمر هي التي تدفع فاتورة الفوضي. فهل يتدارك المصريون ما يحدث ليروا أن هذا الانفلات الشديد الذي تشهده الشوارع يدفع ثمنه أطفال من المفترض أن يكونوا هم المستقبل الذي يدافع عنه الثوار. وهل يمكن في مجتمع يعترف بقيمة الأديان أن يترك هذه المساحة من الأخطار مفتوحة أمام أي طفل أو امرأة دون أن يسد الذرائع بالوقوف صفا واحدا في وطن واحد يوشك أصغر من فيه أن يدفع وحده الثمن.. ثمن الحرية التي كنا ومازلنا نبحث عنها.