واضح أن العقل السياسي للإخوان المسلمين لا يستطيع استيعاب ما حدث من تحولات, أظنها جذرية في العقل السياسي المصري ككل, كما أن العقل السياسي الإخواني لا يقدر علي ابتكار وسائل لتنفيذ ما هو مستقر عليه من عدم استيعاب, وهذا في اعتقادي سبب مباشر لما يبدو من تخبطات في اتخاذ القرار وتنفيذه, ومن خلل في إدارة الحوار السياسي في الوطن, كما أنه من وراء عجز الإخوان عن حلحلة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لتساعدهم في مواجهة الآخرين. يقف عقل الإخوان أسيرا لما يمكن أن نسميه التوحد بالمعتدي أو الاحتذاء بالنقيض وأعني بذلك المعتدي والنقيض بالنسبة لهم ثورة يوليو والجيش وقيادة جمال عبد الناصر رغم أننا اختلفنا معهم علي من كان المعتدي ومن الذي بادر بمصادرة إرادة الآخر ولذلك نراهم حريصين علي ما يكاد يطابق ما جري بعد قيام ثورة.1952 إنهم يسعون إلي إلغاء فعلي للحياة الحزبية وتعطيل التعددية السياسية حتي وإن فرضت عليهم المتغيرات الإبقاء علي الشكل مرحليا, لأن الإلغاء هو مصادرة رأي الآخر في صنع القرار قبل اتخاذه, وهو دفع الآخر باستمرار نحو الهاوية, بحيث إذا ما جاءت اللحظة المناسبة دفعوه إليها ليتخلصوا منه تماما, ولعلي لا أبالغ إذا ذهبت إلي أن تكتيك الإخوان مع جبهة الإنقاذ حاليا هو دفعها إلي مزيد من التشدد مرحلة بعد أخري, وصولا إلي سد كل ما يمكن أن يوجد من نوافذ أو فتحات أو حتي ثغرات للحوار, وعندها سيتخذ الإخوان خطوات من شأنها تعطيل الحياة الحزبية في مصر بدعوي أنها تعطل مسيرة الوطن وتمزق نسيج المجتمع ويعمل قادتها لمصالحهم الضيقة علي حساب الصالح العام إلي آخره! ثم إنهم متثبتون عند فهم تاريخي مؤداه أن مصر عبر تاريخها النيابي الحديث والمعاصر لم تعرف تعددية بالمعني الجاد والحقيقي, فلقد كان حزب الأمة هو التعبير عن مصالح الأمة, ثم جاء الوفد الذي كان تجمعا لمعظم فئات الشعب من حول زعيم كاريزمي هو سعد زغلول, وكان الوفد هو الحزب الكبير الذي كانت الهتافات الشعبية تري أن كل ما غيره ركش وكانت بقية الأحزاب أحزاب أقلية محدودة النفوذ والتأثير أو أحزابا مصنوعة من القصر والمعتمد البريطاني! وجاءت ثورة يوليو وفي اعتقادي أن قيادتها تأثرت بفكر الإخوان وفي مقدمته رؤية حسن البنا التي تضمنتها رسالته للمؤتمر الخامس وفيها كما نشرت في هذه المساحة منذ فترة إلحاح علي إلغاء الحياة الحزبية ليجتمع الكل في جماعة واحدة يكون الإسلام برنامجها وهدفها, وأخذت الثورة بالفكر دون أن تأخذ بمنهج الإخوان وفكرهم, وإنما وضعت مضمونا آخر يعرفه كل الذين عاشوا أو درسوا تلك المرحلة. ومن بعد عبد الناصر جاء السادات, وزعم أنه أعاد التعددية الحزبية, وكان الأمر وهميا وصوريا علي النحو الذي عشناه كلنا, فقد كان تنظيم الوسط ومن بعده حزب مصر وتلاه الحزب الوطني هو الحزب الواحد الكبير, وعلي يمينه ومن شماله أحزاب أي نعم ولكنها قزمية وهامشية ولا دور لها, رغم ضخامة أعداد المنتسبين إليها في وقت من الأوقات كحزب العمل والحزب الناصري, وجاء حسني مبارك ليستكمل الصورة نفسها دون تغيير يذكر اللهم إلا وجود الإخوان في الصورة السياسية كجزء أعتقد أنه لا يتجزأ من النظام اليميني الرأسمالي الفاشي المنحط الذي كان قائما آنذاك! يتجه الإخوان أيضا لترجمة توحدهم بالمعتدي وتشبههم بالنقيض إلي اتخاذ خطوات سريعة صادمة دون أي التفات للآخر في المعادلة السياسية, وهو ما يشبه فلسفة الفلاحين في الخناقات حيث يقولون إن اليد السابقة سابقة أي أن اليد التي تسبق بالضرب واستخدام القوة تبقي إلي نهاية المعركة سباقة!, وأظنهم عبر عقلهم الباطن وخبراتهم المختزنة يقلدون ما كان يفعله جمال عبدالناصر من خطوات متلاحقة أربكت خصومه وحشرتهم في خانة اليك حتي تمكن نهائيا من زمام المعادلة.. وإذا أضفنا لذلك موقف الإخوان الذي يعلنه بعضهم بين حين وآخر كبالونات اختبار تجاه القوات المسلحة, فإنه يؤكد ريبتهم المستمرة من الجيش وخوفهم من أن يتكرر ما جري في مطلع الخمسينيات معهم, ويؤكد أيضا أنهم يريدون الاستدراك المسبق لما لم يستدركه جمال عبدالناصر عندما وجد نفسه ومعه الحكومة والناس في مواجهة قيادة الجيش, ممثلة في المشير عامر وجماعته وكان الثمن فادحا! غير أن الذي يفوت الإخوان ومن يفكر لهم أن ثورة يوليو بقيادة جمال عبد الناصر لم تعلن لحظة واحدة أنها منطلقة من أرضية الديمقراطية الليبرالية, بل إنها ترجمت وبالحرف البند السادس من مبادئها إقامة حياة ديمقراطية سليمة ترجمة تتفق مع ما تري أنه هو السليم وأرادت به البعد الاجتماعي فجاءت ديمقراطيتها تجسيدا للديمقراطية المركزية عميقة البعد الاجتماعي ولذلك وهذا أمر جانبي يعجب المرء ممن يحاكمون يوليو وعبد الناصر علي غياب الديمقراطية الليبرالية! أما الإخوان فقد أعلنوا وأقسموا علي احترام وتأكيد الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي الذي اتفقت عليه كل القوي التي تشاركت الفعل السياسي في السنين الأخيرة حتي قبل انفجار يناير.2011 ما يفوت الإخوان أيضا خلال تعبيرهم عن عقدتي التوحد بالمعتدي والتشبه بالنقيض هو أن عبد الناصر وهو يسعي للتمكين لرؤيته الثورية, أيا كان تقييمها أقدم علي ما يسميه أهل البلد عربون المحبة فوجدناه بعد أقل من شهر يفرض حدا أدني للأجور وأقصي لساعات العمل, ووجدناه بعد اقل من شهرين يفرض الإصلاح الزراعي الأول.. وهلم جرا.. الأمر الذي سحب البساط من تحت أقدام معارضيه, سواء كانوا الأحزاب القديمة بما فيها الوفد أو كانوا الإخوان المسلمين, واستمر عبد الناصر في الإنجاز المستمر ليكتشف الجميع في لحظة لم يطل انتظارها أنه هو الزعيم الشعبي المصري والعربي والعالم الثالث بلا منازع. عندئذ يكون السؤال ماذا قدم الإخوان ليحاولوا تقليد ما فعلته يوليو بقيادة عبدالناصر؟ أين عربون المحبة الذي قدموه للناس أكثر من الشنطة إياها الخاصة بقليل من الأرز والسكر والزيت.. وعندئذ تكون التوقعات ونحن إزاء أوضاع متهالكة علي كل صعيد هي أن أجيالا واسعة طلعت وكبرت ونضجت ولن تقبل بإعادة أحداث التاريخ مرة أخري, وأن ما كان يمكن قبوله عند مطلع الخمسينيات لا يمكن تكراره الآن حتي ولو جاء زعيم بقامة عبدالناصر وحدثت تحولات بحجم ما أحدثه عبد الناصر! الزمن اختلف والناس تغيرت والظروف قفزت عشرات السنين إلي الأمام.. وشتان شتان بين ساكن منشية البكري وساكن لوكاندة الاتحادية.