تشهد محافظات مصر موجة من الإضرابات والمصادمات القبلية والغياب الأمني الغير مسبوق والمتعمد في بعض الأحيان، تأتي هذه الأحداث ونحن علي أعتاب منعطف هام في المشهد المصري، وهو إجراء أول انتخابات تشريعية تشهدها مصر بعد ثورة 25 يناير في 28 نوفمبر القادم. اللافت للنظر أن هذه المحافظات المشتعلة هي نفسها المحافظات التي ستبدأ فيها المرحلة الأولي من الانتخابات التشريعية بكل ما يعتريها من متناقضات وتكهنات! هذه الموجة الغاضبة اتخذت أشكال عدة من معارك ضارية بين أهل بلطيم وسكان سوق الثلاثاء، وتبادل لإطلاق النار بين قريتي أولاد خليفة وأولاد يحيي في قنا، وأزمة مقتل مراكبي نوبي ثاني أيام عيد الأضحى المبارك برصاص الأمن في أسوان، وإغلاق ميناء ومدينة رأس البر في محافظة دمياط للمطالبة بإغلاق مصنع الأسمدة "موبكو". وهذا الأخير سأتناوله بقدر من التفصيل، فقد أثار حفيظة أهالي دمياط منذ الإعلان عن إنشائه في عهد النظام السابق، وبمباركة من رئيس الوزراء وقتها أحمد نظيف، ونجح هذا النظام الفاسد كعادته في خداع الأهالي وإيهامهم بأن المشروع قد تم إلغاءه. والحقيقة أنهم خططوا لفعلتهم جيدا، واستكملوا السيناريو باستخدام اسم مصنع مصر للأسمدة "موبكو" بدلا من مصنع "أجريوم"، ولأن الخداع كان منهج حياه للنظام السابق، تم التستر علي الجرم، وعاش المصنع ومرض الأهالي في كفر البطيخ، السنانية، ومات السمك في عزبة البرج، وتساقط الشجر ونفقت الماشية لا لشيء إلا ليحيا المصنع ويسقط الجميع! والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا انتفض أهل دمياط الآن ضد المصنع؟ الإجابة بسيطة جدا تتمثل في اكتشاف الأهالي قيام المصنع بإنشاء محطة مياه تستمد كل ما يحتاج إليه من نهر النيل! نعم مياه النيل تذهب لإنتاج الأسمدة وتمنع في الوقت نفسه عن القرى المجاورة للمصنع لأنها قري فقيرة معدمة، يسكنها بني آدميين بسطاء لا يملكون شيئا ولا حوله ولا قوة لهم ولا يملكون نفوذاً يمكنهم من الدفاع عن بقائهم، الدفاع عن حقهم في العيش في بيئة نظيفة خالية من أمراض السرطان والحساسية وما خفي كان أعظم! أهالي دمياط أعلنوها صريحة هذه المرة لن نتراجع عن مطلبنا الوحيد وهو إغلاق مصنع الموت من أجل أبنائنا، قالوا أنهم ليسوا بلطجية ولا مطالبهم فئوية كما يدعي البعض، وأكدوا أنهم فقدوا الثقة في الحكومة ووعودها الخادعة، وهذا مربط الفرس. لأن الدولة قد انتهجت فلسفة ملتوية بعيدة عن الشفافية في تعاملها مع مواطنيها، لقد سقط المواطن البسيط من حسابات الدولة في العهد البائد، حيث رفعت شعار الشعب وحياته وممتلكاته في خدمة رجال الأعمال وأصحاب النفوذ. هذه الفلسفة دفعت البسطاء لفقدان الثقة في كل ما يأتي من الدولة أو الحكومة أو أي مسئول كان له صلة بالدولة وأصبح الشك هو سيد الموقف. والمعضلة الحقيقية التي تواجهنا اليوم في أزمة دمياط وغيرها من المحافظات، هي كيف نعيد ثقة المواطن البسيط في دولته خاصة أننا أسقطنا نظام بائد، وسنبدأ خطوات بناء دولة مدنية جديدة تقوم علي احترام كرامة المواطن وتعيد إليه كافة حقوقه المشروعة التي سلبت منه علي مدار ثلاثة عقود، فالمواطن الذي خرج وتظاهر واعتصم في يناير وفبراير مطالبا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، لم يعد يقبل بالمسكنات أو يرضخ للتصريحات الواهية أو الوعود البراقة المعسولة! أعلم جيدا أن توقف ميناء دمياط عن العمل يهدر ملايين الجنيهات يوميا، ولكن أليست حياة المواطن المصري أعظم من هذه الملايين، أليس من حقه أن يشعر أن شيئا ما قد تغير في الواقع المصري، أليس من حقه أن يدافع عن بقائه، عن كرامته ضد نفوذ أصحاب المصالح الذين مازالوا يعبثون في المجتمع ولم تتم محاكمتهم حتي الآن، لذلك أطالب حكومتنا أن تستيقظ من غفوتها وتُعمل العقل وتعالج الموقف المتأزم بعقلية مستنيرة تمتلك رؤية تجعلها تستوعب حجم الأزمة وتداعياتها وتقدم حلولا حقيقية لا مسكنات أو مراوغات عفي عليها الزمان. المزيد من مقالات علا حمدى