بعض الذين يدافعون عن المرجعية الدينية في الدستور المزمع إصداره يتمسحون في الديمقراطية, فيقولون إن الأغلبية في النظم الديمقراطية هي صاحبة القرار والسلطة وعلي الأقلية أن تحترم هذا المبدأ وتنصاع له.. ومادام المسلمون هم أغلبية المصريين, فمن حقهم أن ينصوا في الدستور علي أن الإسلام هو المرجع والمصدر الرئيسي للقوانين التي تسري علي المسلمين وعلي غيرهم. والحقيقة أن الذين يتذرعون بهذه الحجة يسمون الأشياء بغير أسمائها, ويواصلون الخلط بين السياسة والدين, وقد رأيناهم في حديث الأربعاء الماضي يخلطون بين الرابطة الدينية والرابطة الوطنية, وينفون حق الأمة في التشريع لنفسها بإصرارهم علي أن تصدر القوانين عن الشريعة لا عن حاجاتنا ومطالبنا وظروف حياتنا التي تتغير وتتطور. وها نحن نراهم يخلطون بين الأغلبية في السياسة والأغلبية في الدين فيضللون الناس بعدما ضللوا أنفسهم, ويخلعون علي التمييز والتفرقة بين المواطنين المصريين ثوبا ديمقراطيا مرقعا! ونحن نعرف أولا أن التعديل الذي أجري علي المادة الثانية في الدستور عام 1980 فصارت به الشريعة أومبادؤها المصدر الرئيسي للقوانين, بعد أن كانت مصدرا من مصادره المتعددة, هذا التعديل قام به نواب الحزب الوطني الأشرار في برلمان من برلماناتهم المزيفة, وقصد به رشوة الجماعات الدينية لتسكت علي تعديل آخر أجري مع التعديل الأول يتيح للرئيس الأسبق أنور السادات ولمن جاء بعده أن يعاود ترشيح نفسه للرئاسة مادام علي قيد الحياة, وهو أمر لم تجد الجماعات الدينية حرجا في السكوت عليه, لأن تداول السلطة لا يعنيها في قليل أو كثير, بل هي أحرص من غيرها علي البقاء في السلطة بلا نهاية إن أتيح لها الوصول إليها. والنص الخاص إذن بالشريعة الإسلامية لا علاقة له بالديمقراطية من قريب أو من بعيد, وإنما استخدمت الشريعة في تزييف الديمقراطية والتستر علي الطغيان. أما التعلل بأن المسلمين أغلبية فمن حقهم تطبيق الشريعة وأن يجعلوها المصدر الرئيسي للقوانين, فهذا تمسح في الديمقراطية لا سند له في فكر أو تاريخ.. القوانين الدينية كانت تطبق في النظم الدينية بالقوة, سواء أكان الحكام من الأغلبية الدينية أو من الأقلية. هذا من ناحية, ومن ناحية أخري, فالأغلبية الدينية لا تصنع أغلبية سياسية, كما أن الأغلبية السياسية لا تصنع أغلبية دينية. الأغلبية الدينية وضع اجتماعي لا علاقة له بالسياسة, لأن الدين شأن خاص.. فكل منا يختار طريقه إلي العالم الآخر كما يحب, وهذا أمر يخصه وحده ولا يفرضه أحد عليه, وليس له تأثير مباشر في حياتنا المشتركة, ولا تصح فيه المقارنة ولا المفاضلة, لأننا لا نختار عقائدنا الدينية بناء علي خطة مرسومة أو قواعد متفق عليها, وإنما يمتثل كل منا لما تهيئه له ظروفه ويختار ما يطمئن إليه قلبه.. وعلي هذا النحو تتشكل الطوائف الدينية وتتحول إلي كيانات محافظة, تقوم علي عقائد راسخة لا تتأثر كثيرا بعدد المنتمين لها, ولا تطلب من السلطة القائمة إلا أن تتساوي مع مثيلاتها أمام القانون. فإذا انتقلنا من الدين إلي السياسة, فالأغلبية السياسية وضع آخر, لأن السياسة ليست شأنا خاصا, بل هي شأن عام يشغل الجماعة الوطنية كلها. وأنت حين تختار موقفك السياسي لا تختاره لنفسك فحسب, بل تختاره لغيرك أيضا, تريد أن تكون السلطة مدنية أو دينية؟.. وأن تكون الدولة طرفا فاعلا في النشاط الاقتصادي أم تريدها سلبية محايدة؟.. أن تحارب الفقر والأمية والتخلف أم تترك هذه الأمراض تفترسنا كما هي الحال الآن؟ تعطي صوتك في الانتخابات القادمة لمن؟.. لمن فجروا الثورة أم لمن سرقوها؟.. لمن يحلمون بالحرية والعدل والتقدم, أم لمن يتسلون بإحراق الكنائس, وصلم الآذان, وقطع الأيدي والطرق وفرض الحجاب علي التلميذات المسيحيات! أسئلة مطروحة علي المصريين جميعا, وليس علي المسلمين أو علي المسيحيين وحدهم, ومادامت مطروحة علي الجميع فعلي الجميع أن يشاركوا في الإجابة عنها بما لهم من تراث وطني جامع وخبرات إنسانية مشتركة تتيح لهم جميعا أن ينخرطوا في النشاط العام, وهو ما لا يمكن أن يتحقق لو كانت المرجعية محصورة داخل حدود دينية لا يتجاوزها الاجتهاد ولا تتسع لكل المصريين. ونحن في اختيار مواقفنا السياسية لا نرجع لعواطفنا في المقام الأول, وإنما نرجع لحاجاتنا ومصالحنا ومشكلاتنا كما تراها الأحزاب السياسية المختلفة, وكما تعالجها في برامجها وتتعامل معها في الواقع. ثم إن الأغلبية السياسية لا تبقي علي حال واحدة, وإنما تكون اليوم أغلبية وتصبح أقلية غدا..الحزب الذي يفوز في هذه الانتخابات قد يخسرها في الانتخابات المقبلة, والذين كانوا معارضين يصبحون غدا وزراء, ويظل الصراع قائما والسباق محتدما دون أن يفسد للود قضية, ودون أن تتحول المعارضة إلي فتنة طائفية أو حرب أهلية كما يمكن أن يحدث لو انحازت الدولة وفرقت بين دين ودين. ولاشك أن الدين عنصر أساسي من عناصر ثقافتنا الوطنية ومرجع من مراجع الضمير الذي يجب أن يكون حاضرا في كل ما نقوم به, وهذا أمر طبيعي لا يحق لأحد أن يجادل فيه, كما لا يحق لأحد بالمقابل أن يقفزمنه إلي اعتبار الدين مبدأ دستوريا يحول الأغلبية الدينية إلي أغلبية سياسية, ويمكنها من الاستئثار بالسلطة, ويخصها بامتيازات محرمة علي الأقليات, وبهذا يضع الطائفة الدينية فوق الجماعة المصرية, وينقض العقد الأصلي الذي اجتمعنا علي أساسه بما جد في حياتنا من تطورات دينية يجب أن تكون ثروة حضارية ندعم بها وحدتنا الوطنية بدلا من أن تكون سببا للفرقة والنزاع. أريد أن أقول إن هذا العقد الأصلي هو الإطار الذي تشكلت به هويتنا الوطنية, وهو الأساس الذي نقف عليه جميعا لنبني حياتنا المشتركة, ولنتفق في السياسة ونختلف, لأن القضايا التي نتفق حولها ونختلف تهم الجميع وتطالب الجميع بالمشاركة في مناقشتها ومعالجتها, كما سبق أن ذكرت سواء كانوا علي دين الأغلبية أو علي دين الأقلية. ولنذكر بالمناسبة أن الذين أصبحوا اليوم أقلية كانوا أغلبية بالأمس, وأن الذين صاروا اليوم أغلبية كانوا بالأمس علي دين الأقلية, وأن معظمنا يرث دينه كما يرث لون وجهه. حين تكون غالبية المواطنين بيضا أو سودا, هل يحق للبيض أو السود إذا كانوا أغلبية أن ينفردوا بالتشريع؟.. وإذا كانت أغلبية المصريين المحدثين منحدرة من أصلاب المصريين القدماء, هل يحق لها أن تنفرد بالسلطة وتحرم المتمصرين وذريتهم من حقوقهم السياسية؟.. فإذا لم يكن من حق أحد أن يقسم الأمة علي أساس اللون أو العرق أو الطبقة الاجتماعية فليس من حقه أن يقسمها علي أساس الدين. وإذا كان الخلط باطلا بين الأغلبية العرقية والأغلبية السياسية فهو باطل أيضا بين الأغلبية السياسية والأغلبية الدينية..والذين يقحمون المرجعية الإسلامية في الدستور ويجعلون الشريعة المصدر الرئيسي للقوانين يخلطون السياسة بالدين, ويخرجون علي العقد الاجتماعي الذي تآلفت به جماعتنا الوطنية, ويشقون صفنا فلا نبقي في هذه الحالة أغلبية وأقلية في أمة واحدة, وإنما نتحول إلي أمتين تتحكم إحداهما في الأخري, وتفرض عليها قوانين لا يسمح لأحد بمناقشتها أو بالمشاركة في اختيارها أو في تعديلها وتغييرها, وإنما تنفرد بسنها سلطة تضع نفسها فوقنا جميعا, مدعية أنها مفوضة من الله فلا يحق لأحد أن يراقبها أو يحاسبها أو يبحث عن بديل لها, سواء كان ينتمي للأقلية أو الأغلبية. هكذا يتبين لنا أن الذين يقحمون المرجعية الدينية في الدستور يؤسسون لطغيان يرزح تحته المسلمون والمسيحيون معا, وإن بدا كأنه يمنح المسلمين ما يحرم المسيحيين منه, وبهذا يثيرون الفتنة, ويعرضون الكيان الوطني للتصدع والانهيار! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي