طالب في الجامعة, داعبته رؤي حالمة عن عالم جميل تغرد العصافير في حدائقه, ولاتنعق الغربان فوق أطلاله المحترقة. ولم يعبر عن أمنياته بالكلمات فحسب, وانما بالموسيقي كذلك. فقد كان الشاب الأمريكي بيت ستيجر بارعا في العزف علي الجيتار. لكن استاذ العلم الاجتماع في جامعة هارفارد كان يخاصم الأحلام وتخاصمه, أنكر عليه أمنياته, وزجره بعنف, وهو يقول له: لا تظن أن في وسعك تغيير العالم, ان الشيء الوحيد الذي يمكنك أن تفعله هو الدراسة. لكن الطالب لم يفتر حلمه, ولم تصمت موسيقاه.. وانما استعر قلقه علي مسار الدنيا في وقت كان عصيبا من عام.7391 فقد كانت انذارات بحرب تتقافز في الافق الملبد باحتمالات مخيفة. ذلك أن النازي الالماني أدولف هتلر كان يتأهب لتفجير الحرب العالمية الثانية. ولم تمض سنتان حتي اندلعت الحرب المدمرة, ولم ينقشع غبارها الكثيف الا بهزيمة المانيا النازية, وانتحار هتلر عام.5491 وتنفس عازف الجيتار الصعداء. لكنه سرعان ما اشتبك في معارك ضارية. فقد زج السناتور الجمهوري جوزيف ماكارثي باسمه في القائمة السوداء للمتهمين بالعداء لأمريكا, والمتعاطفين مع الشيوعية. وتلك كانت سنوات العار التي لاحقت فيها الماكارثية كوكبة من المثقفين والادباء والفنانين في أمريكا. ولم يكد بيت ستيجر يفلت من قبضة ماكارثي, حتي حمل جيتاره وانضم الي المسيرات السلمية لحركة الحقوق المدنية للسود, التي كان يتزعمها مارتن لوثر كينج. فقد كان عازف الجيتار ولايزال مناهضا للعنصرية ومعبرا عن المقهورين والمهمشين, ومؤيدا لحركات الاحتجاج الاجتماعية. غير أن هذه الحركات الاجتماعية تلبدت سماؤها ولم تمطر الا قليلا, منذ مستهل السبعينيات. وهو ما حدث عقب احتواء السلطات في أوروبا وأمريكا لثورة الشباب التي اندلعت عام.8691 وظن الزعماء الكبار انهم قبضوا علي زمام العالم حتي فاجأتهم ليلة9 نوفمبر9891, عندما قوضت الجماهير سور برلين, وأطلقت ثورات أوروبا الشرقية ضد النظم الشمولية والاستبدادية. وجرفت في نهاية المطاف الاتحاد السوفيتي. ومن ثم صعدت أمريكا الي قمة الدنيا. أمريكا في غمرة الزهو بانتصارها, عبث رجال البنوك والمال بنظامها الرأسمالي. وحولوه الي مضاربات ومقامرة, وتحالفوا مع نفر من السياسيين خاصة في زمن رئاسة بوش الابن. وهو ما أدي إلي انهيار النظام المالي العالمي وتهشم الحلم الامريكي في الرخاء. وعربد خط الفقر في الطرقات والاحصائيات. وحذر خبراء الاقتصاد من تداعيات خطيرة ما لم تبادر السلطات بإعادة تنظيم البنوك وكبح جشع الرأسماليين. لكن السلطات تقاعست, بينما تفاقمت الفجوة بين الاغنياء والفقراء. ومن أتون هذه الفجوة انفجرت حركة احتلوا وول ستريت المناهضة للرأسمالية. وتحامل عازف الجيتار علي وهن شيخوخته, وشارك الشباب في حركة احتجاجهم. واستقبلوه بحفاوة بالغة. وهنا يقول كاتب أمريكي إن نفرا من القراء أعربوا عن خشيتهم من أن غوغاء المتظاهرين يضمرون شرا لامريكا ولنظامها الرأسمالي. لكن الكاتب يرفض هذا الادعاء. ويؤكد أن حركة الاحتجاج فرصة مواتية للتخلص من راسمالية المحاسيب. ويوضح انه عندما ألمت الأزمة المالية بآسيا في أواخر عقد التسعينيات حملت أمريكا السياسيين الأسيويين المسئولية, لانهم سمحوا بتفشي رأسمالية المحاسيب. ويصدق هذا تماما علي أمريكا الآن. والمحاسيب هنا هم القلة التي استحوذت علي الأرباح والثروات, واثقلت الغالبية بأعباء الديون, ودفعت بهم دفعا الي خط الفقر ومعاركه الراهنة. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي