عشرون عاما مرت علي حملة تبنتها الأهرام بدأت بخبر صحفي أوائل عام1990 حول اكتشاف جثة حوت من نوع الدرداء طوله22 مترا, ووزنه نحو15 طنا علي شواطئ الساحل الشمالي بالكيلو87 طريق الإسكندرية مطروح. في ظاهرة لا تشهدها المدن الساحلية كثيرا بمنطقة البحر المتوسط لأن ذلك النوع الضخم من الحيتان لا يعيش في البحار ولكن في المحيطات. وتوالت المجهودات وراء حث المقالات والأخبار الصحفية التي نشرتها الأهرام لمتابعة مصير الحوت الحائر كما أشتهر وقتها حتي تمكنت قوات الحماية المدنية بالإسكندرية من القيام بسلخه وتشريحه تحت إشراف المعهد القومي لعلوم البحار. وتبع تلك الأحداث مجهودات أكبر من خبراء معهد علوم البحار في تطبيق نظرية العالم المصري حسين جوهر في دفن الحوت في مدفن صحي من الجير الحي بمنطقة ليست بعيدة عن مكان اكتشافه حتي يتسني له التحلل بصورة طبيعية وتستفيد منه الدورة البيئية بالمنطقة, فضلا عن الإسراع في تحلله تمهيدا لاستخراج هيكله العظمي وإعادة تركيبه ليصبح قيمة علمية للباحثين وتحفة طبيعية لزائري متحف المحنطات بالمعهد القومي لعلوم البحار. ويروي أساتذة المعهد ذكرياتهم عن مغامراتهم مع الحوت الحائر كما وصفته الأهرام في أخبارها وكيف كانوا يتسابقون في المهام الكشفية لدراسة كائن حي لا ينتمي إلي البيئة البحرية للبحر المتوسط تقاذفته الأقدار وأهدته إلي مدينة الإسكندرية ليستقر نهائيا بالقرب من معهد علوم البحار, ويتحدثون عن التعامل المبدئي وأولي العينات التي تم جلبها إلي المعهد لتحليلها ودراستها ثم عمليات التقطيع واستخدام الأوناش في نقل جثة الحوت. وكان هدفهم هو تكليل هذا الجهد بعد استخراج جثة الحوت من مدفنه لتأكيد نجاح نظرية علمية ابتكرها عالم مصري في نفس مجال تخصصهم, وظلوا ينظرون إلي الهيكل العظمي للحوت الذي تم اكتشافه عام1936 بطول15 مترا ويحتفظ به المعهد في متحفه للمحنطات نظرة مختلفة تقدر مدي الجهد الذي بذله العلماء الذين ساهموا في نقله وسلخه بإمكانيات بدائية حينها-, منتظرين أن يوضع حوتهم الحائر إلي جواره ليسجل نجاحا عظيما ينسب لهم. و مرت السنون حتي بلغت عشرين عاما ولم يستخرج الحوت من مدفنه رغم انتظار كل من بذلوا مجهودات وتعاونوا معا ونسجوا ذكريات في التعامل مع الحوت وبنوا طموحات وأحلاما علي يوم إعادة استخراجه ولكنه لم يخرج ليظل حائرا في مدفنه لا يجد من يخرجه منه. مرت تلك السنوات والحوت الدرداء لا يزال حبيسا في مدفنه لتناسي قصته وحرمان الكثير من الباحثين والسائحين من التمتع بإحدي الظواهر الطبيعية التي لا تتكرر ويروي كافة زوار قلعة قايتباي بالإسكندرية بأن أول ما يجذب انتباههم أثناء مرورهم من القرب من بوابة متحف المحنطات التابع للمعهد القومي لعلوم البحار هو ذلك الهيكل العظمي الضخم; مما يدفعهم إلي دخول المتحف والتعرف علي سره ليعلموا أنه الحوت ذو الزعنفة كأول حوت تم تحنيطه بعد اكتشاف جثته علي مصب النيل في رشيد عام.1936 ويشهد هذا الهيكل العظمي إقبالا كبيرا من زوار القلعة لإشباع فضولهم حول15 مترا من العظام المتراصة لكائن حي لم يشاهدوا في ضخامته من قبل, حتي يتعرفوا إلي حقيقته من خلال مرشدي المتحف. وتستمر قصة الحوت الحائر بتفاصيلها المشوقة عندما تؤكد الدراسات أن هذا الكائن العملاق ما هو إلا صغير ضل طريقه أثناء رحلة الحيتان السنوية من شمال المحيط إلي جنوبه للبحث عن الغذاء; عندما قرر هذا الصغير العملاق اللعب مع أسراب السردين المتجهة إلي مصبي النيل بالبحر المتوسط ليخترق مضيق جبل طارق ويستقر به المكان ملتصقا بالساحل الشمالي لمصر. ويقول المتخصصون في دراسة الحيتان أنه من الحيوانات الثديية التي تلد وترضع صغارها التي تعيش في المحيطات ويتراوح عمره ما بين60 عاما للذكور و80 عاما للإناث, ولها دورتا هجرة بين شمال المحيط وجنوبه بغرض التزاوج والحصول علي الغذاء, ويصل طول الحوت الي ما بين30 إلي35 مترا... ويستفيد الإنسان من لحوم الحيتان وكبدها وجلدها في الغذاء- ببعض الدول- والصناعات الجلدية. ويكشف خبراء المعهد القومي لعلوم البحار أن الحوت الحائر ليس الوحيد الحبيس بمدفنه ولكن هناك عددا آخر من الحيتان تناستها السنوات ولم يتم استخراجها حتي الآن بمناطق مختلفة من الساحل الشمالي, مبينين أن تلك الحيتان تختلف في أنواعها وأحجامها ولكن يظل سبب انجذابها لمصر هو اللهو وراء أسراب السردين التي تنجح دائما في نصب شباكها لاصطياد تلك الكائنات الضخمة بطمي النيل. ويظل السؤال حول مصير الحوت الحائر بعد عشرين عاما بذل فيها الكثير من الجهد للحفاظ علي قيمة علمية وبيئية لا تحدث كثيرا, وهل سينجح الحوت في الخروج إلي العالم مرة أخري ليستفيد منه الباحثين ويستمتع بمشاهدته السائحين؟