تتطور الأحداث سريعا بين تركيا وسوريا, بعد أن تصاعدت حدة الخلافات بين البلدين الجارين, بسبب الموقف التركي المساند للشعب السوري الباحث عن حريته وفتح اراضيه أمام اللاجئين الفارين من رصاص الجيش والامن السوري الذي يقتل بلا رحمة, واستضافة المعارضة علي اراضيها وكذا ضباط الجيش المنشقين علي النظام, الامر الذي دعا سوريا إلي اتخاذ موقف عدائي من الحكومة التركية, واتهامها بتسليح المعارضين والعمل علي دحض دورها المحوري في المنطقة بصفتها دولة الممانعة والمقاومة, وأن تركيا تلعب هذا الدور لمصلحة أسرائيل حتي تفرغ لها الساحة. أسئلة كثيرة لا بد أن تقفز دفعة واحدة إلي الذهن عند متابعة الموقف التركي مما يجري في سوريا إلي درجة أن الكثير من المتابعين يرون أنه سيكون لهذا الموقف تأثير بالغ علي مستقبل الأزمة السورية ومصيرها في ظل الحدود الطويلة بين البلدين والتي تصل إلي نحو800 كلم و تداخل العوامل الاجتماعية والتاريخية والثقافية والامنية والبشرية, في ظل الحديث التركي المتواصل عن أن الأزمة باتت شأن تركي داخلي. وبدأت تركيا تتتخذ موقفين في نفس الوقت, الأول: هو الإعلان المستمر عن الحرص الشديد علي الإصلاح من خلال النظام وتحديدا من خلال الرئيس بشار الأسد والحفاظ علي استقرار سوريا وأمنها ووحدتها. والثاني: التصعيد والتهديد بما في ذلك التلويح بالتدخل العسكري وإقامة منطقة أمنية عازلة بين البلدين علي غرار ما جري مع العراق في السابق, بل وحتي المشاركة في عمل عسكري إذا ما تطورت الأمور أكثر وذلك علي غرار ما جري مع ليبيا, حيث أشار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أكثر من مرة إلي ان تركيا لن تتخلف عن التحرك إذا ما اتخذ المجتمع الدولي اجراءات ضد سوريا في إشارة إلي إمكانية القيام بعمل عسكري ما ضد دمشق. فتركيا تتحرك تجاه المشهد السوري كأخطر لاعب إقليمي, ترسل الموفدين من جهة, وتحتضن مؤتمرات المعارضة السورية وتؤمن المنبر الإعلامي للمراقب العام لحركة الإخوان المسلمين محمد رياض الشقفة من جهة ثانية, والأخطر من هذا وذاك وضع الخيار العسكري علي الطاولة من جهة ثالثة.. كلها مؤشرات تؤكد ليست نهاية نظرية صفر المشكلات التي طرحها وزير الخارجية التركي احمد داود أوغلو وما سمي بنظرية العمق الاستراتيجي فحسب, بل العودة إلي ما قبل المربع الأول, أي امكانية الصدام انطلاقا من جملة عوامل وأسباب كامنة تحت رماد التاريخ ومصالح السياسة والعلاقات الدولية والصراعات الجارية والتطلعات المستقبلة لخريطة المنطقة. والمتتبع للعلاقات السورية التركية يجد انها وصلت قبل بدء الاحتجاجات في سوريا قبل نحو سبعة أشر إلي مستوي القمة, إذ وقع الجانبان خلال الفترة الماضية علي عشرات الاتفاقيات وتم فتح الحدود وإلغاء تأشيرات المرور, ومارس الجانبان معا سياسة مشتركة هدفت إلي منع إقامة كيان كردي في المنطقة, وشكل البلدان المجلس الأعلي الاستراتيجي للعلاقات, وللمرة الأولي في التاريخ العلاقات بين البلدين تطورات العلاقات العسكرية بينهما إلي درجة ان الجيشين السوري والتركي اجريا مناورات مشتركة بعدما كان الجيش التركي طوال العقود الماضية يرتبط بعلاقات وثيقة مع إسرائيل وعلي شكل تحالف ضد العرب. تري تركيا ان تجربتها الإصلاحية تجربة رائدة تصلح لتحقيق التغييرات الديمقراطية في عموم المنطقة ولاسيما في سوريا حيث دور وتأثير العوامل والعلاقات التاريخية والجغرافية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية بين البلدين, وعليه تبدي تركيا اهتماما خاصا بالأزمة السورية خلافا للوضع في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين, وهي تنطلق في ذلك أن التغيير ينبغي ان لا يؤدي إلي انهيار الاستقرار في سوريا, فقضية استقرار سوريا قضية حساسة بالنسبة لتركيا وأمنها القومي, فهناك800 كليومتر من الحدود المشتركة ووجود قرابة مليوني كردي سوري في المناطق الحدودية المجاورة لتركيا يشكلان قلقا لتركيا خاصة في ظل علاقة أكراد سوريا مع أبناء جلدتهم من أكراد تركيا والعراق والخوف التركي الدفين من قيام دولة كردية في المنطقة. كما ان تركيا التي ترفع راية الإصلاح والديمقراطية وأيدت بقوة ثورة الشعب المصري ضد نظام حسني مبارك ولاحقا ثورة الشعب الليبي ضد نظام العقيد معمر القذافي لا تستطيع ان تتخذ موقفا مغايرا في الحالة السورية, كما ان السياسة التركية ورغم انفتاحها الكبير علي العالمين العربي والإسلامي في عهد حزب العدالة والتنمية فان تركيا في سياساتها العليا لا تزال تتحرك وفق العديد من العوامل المرتبطة بالغرب واستراتيجيته تجاه منطقة الشرق الأوسط, وذلك في إطار التطلع إلي فرض مشهد إقليمي سياسي محدد علي المنطقة, فتركيا ورغم فتور علاقاتها مع إسرائيل لها علاقات قوية مع واشنطن والغرب عموما كما انها عضو مهم في الحلف الاطلسي الذي بات يشكل الجناح العسكري الأهم للسياسة الأمريكية تجاه العالم. من الواضح, ان أولويات الجانبين باتت مختلفة, فبعد ان وصلت الأمور في سوريا إلي نقطة حرجة تقف فيها البلاد عند مفترق الطرق باتت أولوية النظام هي الأمن وبأي ثمن كان, كخطوة لابد منها لتأمين الأجواء المناسبة لتنفيذ الخطوات الإصلاحية التي بدأ النظام بها حيث أصدر العديد من القرارات والمراسيم وشكل العديد من اللجان لهذه الغاية, فيما يري الجانب التركي ان الأولوية باتت للتغيير السياسي والانتقال إلي مرحلة جديدة, وان تحقيق الأمن والاستقرار لم يعد ممكنا بالأدوات الأمنية. وأصل المشكلة هنا, هو ان ثمة اختلافا بين رؤية الجانبين لما يحدث, فالنظام السوري يضع الأمر في خانة المؤامرة, فيما تركيا تري ان لا مؤامرة. دمشق تقول انها شرعت في إصلاحات مدروسة وشكلت لجانا لهذه الغاية وبطريقة لا تخرج الأمور عن السيطرة, فيما تري تركيا ان الإصلاحات التي أعلنت عنها حتي الآن غير ملبية للتطلعات, وتقول المصادر التركية ان المبعوثين الأتراك الذين ذهبوا إلي دمشق خلال الفترة الماضية حملوا معهم العديد من المطالب للرئيس الاسد. وأمام المطالب التركية التي تأخذ طابع الالحاح والتغيير باسم الإصلاح يري النظام السوري الذي يعتز بموافقه الوطنية والقومية وقدراته الدبلوماسية في إدارة الملفات الإقليمية... يري صعوبة كبيرة في هضم( الدروس التركية) التي تحدد مجالات الإصلاح والتغيير وما الذي ينبغي فعله والأهم ما تريده أنقرة وما يمكن ان تفعله في المرحلة المقبلة إذا تطورت الأمور أكثر بين أنقرةودمشق. ومع تطور الأزمة السورية ونزوح آلاف من السوريين إلي داخل الأراضي التركية هربا من الأوضاع الأمنية في بلادهم ورفع اردوغان من سقف تصريحاته النارية تجاه دمشق, هناك تأكيد بأن العلاقات السورية التركية دخلت مرحلة الخطر, ومرشحة للمزيد من التوتر. وفي المقابل, فان هناك احساسا سوريا عميقا بأن تركيا في سياستها الجديدة تجاه الأزمة السورية الجارية غير بعيدة عن االموقف الأمريكي والغربي عموما, بل انها تلعب دورا إقليميا لفرض واقع سياسي معين في سوريا وعليها. كما انها تشعر ان الغرب يتحرك عبر تركيا علي هذا النحو اذن فالموقف بين البلدين في غاية الصعوبة وتطوراته بشكل سلبي ستؤثر بطريقة مباشرة علي منطقة الشرق الاوسط بأسرها في ظل التصعيد المحتمل وبالاخص العسكري بعد اعلان تركيا ان سوريا نشرت صواريخ اسكندر علي حدودها, بعد المناورات العسكرية التركية التي تمت علي الحدود بين البلدين.