كما كان عليه الحال في ثورتي مصر وتونس: التخلص من النظام شيء, وبناء دولة جديدة شيء آخر.. ليس شرطا أن هذا أصعب من ذاك, ولكن الصواب أن نقول إن هذا تحد.. وذلك تحد آخر. في تجربة العراق, حدث التغيير الشامل بمساعدة تدخل قوي أجنبية, وبإحداث حركة هدم كاملة لجميع مؤسسات الدولة من رئاسة وجيش وشرطة وقضاء وأحزاب وبرلمان, فعاني العراق ما عاناه من الاحتلال والإرهاب والجماعات المسلحة والطائفية, وما زالت مرحلة البناء مستمرة حتي يومنا هذا. أما في ليبيا, فيخطيء من يتصور أن هذا البلد سيكون علي طريق الانتقال الصحيح والسلس إلي الحكم الديمقراطي وبناء الدولة الحديثة لمجرد أن محمود جبريل رئيس الوزراء الليبي تعهد بإجراء انتخابات بعد ثمانية أشهر من الآن, فالتعهدات والتصريحات شيء, والتحديات والمعطيات الموجودة علي أرض الواقع شيء آخر. كثيرون أبدوا تفاؤلهم من التجربة الليبية تحديدا وتميزها عن تجربة التغيير من الخارج في العراق, وعن التجربتين المصرية والتونسية اللتين حدث فيهما التغيير من الداخل, باعتبار أن التغيير في ليبيا كان من وجهة نظر البعض تغييرا ذا طابع' ثوري' بحت, بداية من الأسلوب الذي تمت به تصفية رأس النظام معمر القذافي, ثم القضاء علي نظامه بالكامل, وبعد ذلك بدء العملية السياسية وتشكيل المؤسسات من تحت الصفر, وذلك بعكس تجربتي مصر وتونس اللتين تتم فيهما محاكمة رؤوس وقادة النظامين وإقصاء عناصرهما الرئيسية من المؤسسات المختلفة تدريجيا, مع الإبقاء علي الهيكل العام لهذه المؤسسات, وخاصة العسكرية والقضائية منها. فهذا لا يعني أن الوضع الليبي هو المثالي, أو العكس, فوضع ليبيا يختلف عن وضع مصر وتونس, وكذلك وضع هذه الدول الثلاث في فكرة' الهدم والبناء' سيختلف عندما يأتي الحديث مستقبلا عن اليمن أو سوريا مثلا, والسبب في هذا بالطبع أن ليبيا لم تكون فيها مؤسسات أصلا, بل كان القذافي يديرها بطريقة اللجان الشعبية التي لم يعرف لها العالم مثيلا, وكانت مقاليد الأمور كلها في يديه, فكان هو القائد والجيش والشرطة والبرلمان والمؤسسات, بينما لم تكن مصر وتونس كذلك, بدليل أن التغيير فيهما جاء' سلميا' وليس باستخدام الرشاشات والدبابات والقصف الجوي من طائرات' الناتو' ثم قتل رأس النظام وأبنائه ومساعديه, بل إن واقع الأمر يشير أيضا إلي أن الحالة الليبية منفردة في ذلك بالفعل قياسا بجميع الدول التي شهدت ثورات- في العصر الحديث علي الأقل- أي أن مبدأ' الهدم الكامل أولا' هو المبدأ الوحيد الذي يصلح مع الحالة الليبية, ولم يكن يصلح واقعيا مع مصر وتونس, وما يحدث هنا لا يتعين بالضرورة أن يحدث هناك, أو أن يكون قاعدة تسري علي باقي الدول التي تشهد ثورات ضد أنظمتها. وحتي طبيعة المشكلات التي ستواجهها ليبيا في مرحلة' البناء من الصفر' لن تكون مشابهة علي الإطلاق لمرحلة بناء المجتمع الديمقراطي في مصر أو تونس, فهناك متغيرات مختلفة تماما بين الدول الثلاث, فعلي الرغم من أن الاحتياطيات البترولية الليبية قد تكون عاملا مساعدا علي تجنب الكثير من المشكلات الاقتصادية التي تواجهها الثورة المصرية, وما زالت تواجهها الثورة التونسية( صندوق النقد الدولي يتوقع لها تحقيق معدل نمو صفر في المائة في2012), فإن' المطبات' الليبية ستكون من نوع مختلف ومنفرد عن' المطبات' المصرية والتونسية, بداية من وجود قوات أجنبية علي الأرض تريد الرحيل, وانتشار عمليات القتل الجماعي لمن تبقي من مؤيدي القذافي, وما تبعها من اتهامات دولية بدأت توجه إلي المجلس الانتقالي والثوار, ومرورا بالتحذيرات من انتشار الأسلحة في أيدي الليبيين بصورة تنذر بحدوث كوارث, ونهاية باحتمالات سقوط المجلس الانتقالي في فخ الانقسامات السياسية والطائفية نظرا لطبيعة تكوين المجلس وتشكيلة الثوار. أما فيما يتعلق بالقوات الأجنبية, فعلي الرغم من أن دول التحالف نفسها أعلنت عن قرب انتهاء مهمتها العسكرية رسميا في ليبيا بعد يومين من مقتل القذافي بأيدي الثوار, وحددت لذلك نهاية الشهر الحالي موعدا, فإن المفارقة جاءت من المجلس الانتقالي نفسه الذي طلب من مهمة الناتو الاستمرار لمدة شهر لفترة إضافية لحين التأكد من استئصال ما تبقي من قوات القذافي ومؤيديه ومن استتباب الأمن في ربوع البلاد. وفيما يتعلق فهذه النقطة أيضا ما زال السؤال مطروحا: من سيدفع فاتورة عمليات الناتو في ليبيا؟ الإجابة بالتأكيد أن الفاتورة ممكن دفعها من خلال منح دول الناتو الرئيسية وضع الدول الأولي بالرعاية أو ذات الأفضلية الخاصة في صفقات إعادة الإعمار وعقود شركات البترول, مع الفارق بين حالتي ليبيا والعراق, أن الليبيين يستطيعون القيام بذلك باختيارهم, وهذا أمر بدهي. وثانيا, وفيما يتعلق بالأعمال الانتقامية المنتشرة, فقد لوحظ في الأيام التالية لمقتل القذافي صدور تقارير متكررة ومتتالية من منظمات دولية وحقوقية مثل منظمة العفو الدولية بدأت تتناول عمليات القتل الجماعي والجثث التي تم العثور عليها في بعض المناطق الليبية للعناصر المؤيدة لنظام القذافي التي تمت تصفيتها, مما يعني أن المجلس الانتقالي يجب أن يكون مستعدا في المرحلة المقبلة لمواجهة ضغوط عديدة تنتقد طريقة التعامل مع قوات القذافي. وأما ثالثا, وفيما يخص سيناريو مقتل القذافي بهذه الطريقة الدموية الذي شوه صورة الثورة الليبية, وبخاصة بعد حديث قادة المجلس الانتقالي المتكرر عن أن ليبيا ستشهد تطبيقا للشريعة الإسلامية, فقد أضر كثيرا بصورة النهج الذي سينتهجه المجلس الانتقالي في المرحلة المقبلة, وبخاصة أن كثيرين سيربطون عن عمد أو بغير قصد بين هذا النهج المنتظر وبين الحديث عن الشريعة الإسلامية, ولعل هذا هو ما دفع الأزهر الشريف إلي المسارعة بالتأكيد علي مبدأ نهي الإسلام التام عن قتل الأسري أو الجرحي أو التمثيل بجثثهم, حتي تعود الأمور إلي نصابها, ولكي لا تصبح الشريعة الإسلامية هي المتهم في مشاهد قتل القذافي أسيرا. وأما رابعا, وفيما يتصل بانتشار الأسلحة في ليبيا, فمنظمة' هيومن رايتس ووتش' أكدت علي لسان عدد من مفتشيها وجود أسلحة ليبية وصواريخ متطورة بدون حراسة أو تأمين علي الأراضي الليبية في الوقت الحالي, وهو ما دفع الحكومة الأمريكية إلي إرسال فرق من الخبراء إلي ليبيا لمساعدة المجلس الانتقالي علي تحديد مواقع صواريخ' أرض جو' المفقودة, وأيضا إلي التعهد بتخصيص40 مليون دولار لمساعدة ليبيا بتأمين أو تدمير مخزوناتها من الأسلحة الخطيرة, كما تعهدت كندا أيضا بتقديم10 ملايين دولار لهذا الغرض, والأسوأ من ذلك هو الانتشار المخيف للأسلحة الآلية الحديثة بمختف أنواعها في أيدي المدنيين الليبيين أنفسهم الذين أصبحوا الآن يثيرون القلق علي مستقبل بلدهم الأمني بعد أن أصبحوا شعبا' مجيشا', وقد حدث مؤخرا ما كان متوقعا عندما أكد حاملو الأسلحة أنهم لن يقبلوا بتسليمها إلي سلطات المجلس الانتقالي إلا بعد شعورهم باستتباب الأمن في البلاد وبأنهم ليسوا في حاجة إلي الإبقاء عليها, وهو ما يعني أن مسألة' تجييش' الشعب الليبي هذه لن يمكن السيطرة عليها في المستقبل المنظور, لأنه لا يدري أحد ما الذي سيحدث في المرحلة المقبلة. وأما خامسا وأخيرا: وفيما يتعلق بالمجلس الانتقالي نفسه وطريقته في إدارة المرحلة الانتقالية( والحديث هنا مرتبط تماما بالنقاط السابق ذركها وبخاصة' خامسا'), فالجميع يعرف حجم الانقسام الذي حدث بين الأطياف السياسية المختلفة في مصر وتونس مثلا بعد البدء في مرحلة تشكيل التحالفات والأحزاب والاستعداد لخوض الانتخابات, وطريقة تعامل البعض مع فكرة الديمقراطية, إلي الدرجة التي رأينها فيها بعض الأصوات الخاسرة في انتخابات تونس تشكك بأسلوب مضحك في قدرة الأغلبية العظمي من التوانسة علي الاختيار بعد فوز حزب النهضة الإسلامي في الانتخابات(!!), ورأينا كيف بدأ الحديث في مصر من بعض الأطراف التي تدرك خسارتها في أي انتخابات مقبلة عن التشكيك في العملية الانتخابية نفسها من قبل أن تبدأ(!!) فماذا عن الشعب الليبي الذي لم يتذوق طعم الحرية منذ42 عاما؟ كيف سينقسم الثوار إلي أحزاب وتيارات سياسية تشارك في معتركات انتخابية وهي تحمل هذا الكم الرهيب من الأسلحة في أيديها وكل منها يعتقد بأنه هو الذي صنع الثورة أو له الدور الأكبر فيها؟ كيف يمكن تقبل فكرة انبثاق أحزاب عن رفقاء الثورة بالأمس ونحن ندرك أن الثوار كانوا يعبرون عن تيارات شديدة الاختلاف والتناقض ما بين الإسلامية والليبرالية والقبلية وغيرها؟ وماذا سيحدث لو حدث انشقاق واختلاف؟ رغم أن هذا الاختلاف يبدو طبيعيا تماما في المرحلة الديمقراطية؟! وهل يمكن أن يقبل أي طرف الإقصاء من الساحة السياسية بعد هذا المشوار الثوري العسير؟! وكما كان التخلص من كابوس القذافي صعبا, سيكون بناء الدولة الليبية والانتقال إلي الحكم الديمقراطي المدني أكثر صعوبة, والمخاوف كثيرة جدا وتستدعي الحذر!