يا صاحب الجلالة أقدم لك رجلا سوف يهبك الخلود, ولكن أرجو أن تعطيه رغيفا حتي يتمكن من أداء هذه المهمة؟ قالها الناقد الفرنسي داسبريو(1663 1711) وهو يرفع أمامه أحد الشعراء ليعمل في بلاط الملك. ويقال: إن الملك نظر اليه طويلا وعريضا وعميقا وسأل: ما الذي يأكله الشعراء؟ فقيل له: ما يأكله كل المواطنين.. فسأل: فمن أين يأتون بهذا الكلام الغريب إذا كانوا يتناولون نفس الطعام؟ فقيل له: هذه هي الموهبة التي انفردوا بها! فسأل: ولماذا لم يعطهم الله بعض المال حتي لا يمدوا أيديهم إلي الملوك؟ فقيل له: هذا هو مصدر تعاستهم.. والتعاسة هي أحد ينابيع الشعر فإن لم يجدوا التعاسة غند غيرهم, ابتدعوها لأنفسهم! قال الملك: دعني أفكر في هذا الذي قلت.. الآن هذا الشاعر سوف يدخل قصري فيسخط علي الملك الذي ليس شاعرا.. وعنده كل شئ.. ويسخط علي الحاشية التي عند الملك, ولا رأي لها ولا عقل ويسخط علي عشيقات الملك اللاتي أعطاهن الله الجمال وأخذ منهن العقل.. إذ كيف يركعن عند قدمي الملك, ولا يركعن عند عظمة الشاعر.. ان كان هذا هو المقصود من وجود الشاعر بيننا فإنني أوافق علي أن أكون مصدر تعاسة ليقول شعرا ولكن أين يجد الشاعر سعادته.. كيف يجد سعادته في تعاسته؟! فقيل له: لا تشغل بالك كثيرا يا صاحب الجلالة.. إن الشاعر كالسمك يعيش ويموت في الماء.. ونحن الناس العاديين يغرقنا الماء.. الشاعر نوع من الطيور.. يعيش علي الهواء.. ويموت به أيضا.. أنه بشر ولكن ليس كالبشر.. إنه كأنصاف الآلهة وان لم يكن كذلك!! ويقال ان الشاعر مثل طائر الشوك ذلك الطائر الغريب الذي يظل يطير بعيدا بعيدا.. دون طعام أو شراب.. حتي يرهقه الطيران.. ويختار من كل الأشجار شجرة كثيرة الأشواك.. ومن كل الأشواك أطولها وأعلاها.. ويروح يلقي بنفسه علي هذه الشوكة الطويلة, ويظل يفعل ذلك حتي تنفذ الشوكة إلي قلبه, فيطلق آخر وأروع صيحاته.. لقد قال كلمته عند قمة شجرة.. ومات في قمة اللياقة الغنائية, لقد ادخر ما تبقي من قوة لكي يفجر بها الدم والشعر معا ولآخر مرة! [email protected] المزيد من أعمدة أنيس منصور