رحل عن عالمنا قامة فكرية وأدبية كبيرة وهو الكاتب الكبير " أنيس منصور " الذى استفاضت الأقلام فى الكتابة عنه وعن الفلسفة والإبداع وعن علاقته بالمرأة ، لكن هناك العديد من الجوانب الأخرى التى كان كاتبنا الكبير يهتم بها ومنها " كرة القدم " التى ألف عنها كتابا بعنوان " كرة الندم " تحسر فيه على انه لم يمارس اللعبة الشهيرة . وفى كتابه " المثقفون وكرة القدم " يتوقف الكاتب أشرف عبد الشافى عند تلك المرحلة المهمة فى حياة كاتبنا الراحل ، وهى كرة القدم ، فمن يصدق أن مفكراً وكاتباً وفيلسوفاً مثله كان مغرماً بها ، وكتب عنها مادحا فى مرات كثيرة ومهاجما فى مرات أكثر ، وكما يقول الكاتب " فان علاقة أنيس منصور بالساحرة المستديرة مثل علاقته بأشياء كثيرة لا يستطيع الوقوع فى غرامها فتتحكم فى عقله وتسيطر على تصرفاته، ويعجزعن كراهيتها فيفقد الكثير من المعرفة بثقافات الشعوب وهواياتهم وتأثير اللعبة على مصائرهم . وتلك عادة الفلاسفة ،فكل الأشياء مهما كانت ضخمة أو هينة تستحق التأمل ،ونحن فى حضرة إمام المتأملين وأكثرهم وعياً وثقافة وغزارة فى المعلومات .،فهل يمكن لمتأمل عظيم أن يتجاهل شعبية تلك اللعبة وسيطرتها على الكثير من مناحى الحياة ؟! الحقيقة أن كاتبنا الكبير تعامل مع كرة القدم باعتبارها مقياساً ومعياراً لكثير مما يدور حولنا فى عالم السياسة الصاخب ،وعالم الحب الصاخب أيضاً ، حتى فى مقولاته الساخرة الجميلة التى يلخص فيها عصارة فكره وثقافتة ووعيه وخبراته بالبشر نجده يحشر كرة القدم حتى بين الزوجين: "أن يكون لك طفل فأنت أب, أن يكون لك أكثر فأنت حكم فى مباراة فاشلة "، "الحب: مباراة يلعبها اثنان ويخسرها أثنان أيضا!". التاريخ الذى صنعه أنيس منصور لنفسه باعتباره أهم كاتب عمود يومى على الاطلاق يمتلك سحر اللغة وفيض المعلومات وخفة الظل ،لم يمنعه من البحث لنفسه عن رياضة يمارسها ،وقد لعب الكرة فى الصغر ،وتركها دون ندم ، وعندما كبر بحث لنفسه عن رياضة يمارسها فاختار "الشطرنج "، وحاول أن يتقدم فيها ولم يستطع :" وكنت إذا لعبت مع أطفال الأسرة يغلبوننى، واشتريت كتبا ودرست وبرعت فى فتح اللعب بالحصان والطابية, ولا اكاد أصل إلى منتصف رقعة الشطرنج حتى يسهل حصارى وكش الملك! ". وفى مرحلة متأخرة اكتشف أنيس منصور إن المتعة الحقيقية هى كرة القدم ،فجماهيرها متألقة طول الوقت وتشعر بالبهجة والفرحة ، وكتب مقاله الرائع:"العب العب ليطول عمرك " وقال الكاتب الكبير المعجون بالفكاهة والحنكة والدهاء والموهبة والذى وثق فيه السادات وجعله بمثابة وزير خارجيته الخاص وحامل رسائله إلى العالم : " مسكين كل إنسان لا يحب كرة القدم..هذا اقتناعى أخيراً.. إننى أندم اليوم على كل السنوات التى مضت من دون أن أضيعها فى الجلوس فى الملاعب أو في المدرجات أصرخ وأصفق وأهتف للكرة تنطلق يمينا وشمالا.. تهز الشبكة أو تهز الثلاث خشبات.....عندما تكون هناك مباراة، يسبقها الكلام والاستعداد النفسى والانتقال إلى الملاعب فى السيارات والاتوبيسات.. ثم الانتظار ساعات فى الملاعب.. حيث الهواء منعش والشمس مشرقة.. والضحك لسبب ولغير سبب وحيث يسحب كل واحد احتياطيه من القوة والحماس ويضعه في عينيه وأذنيه ويديه .. وفى نفس الوقت يشرب ويأكل ويضحك ويرتفع صدره ويمتلىء بالصحة والعافية..لقد تحول كل إنسان إلى كائن حى شاب منتعش.. وتمضى الساعات وهو يصرخ ويصفق.. ويغضب ويقف ليجلس ويتحول من دون قصد، أو بقصد إلى طفل صغير. كم ساعة مضت من كل يوم ساعات وأيام وشهور وسنوات وهو فى غاية الحيوية والنشاط.. جسمه قد نفض كل متاعبه، وعقله قد طرد كل الهموم وسقط عنه كل شىء كأنه تراب أو هباب وأصبح مغسولا نظيفا نقيا ثم إن كل مناقشاته ومنازعاته وخلافاته تمثيل فى تمثيل.. لأن الرياضة لا تعرف الكراهية والحقد وأرجوك بعد ذلك ان تنظر إلى وجوه السياسيين والكتاب: انت لا ترى عليها إلا الهم والغم الذي يطيل ألسنتهم وأقلامهم ويقصف أعمارهم.فأقصر الناس عمراً اكثر الناس هماً، وأطولهم عمراً اكثرهم لعباً أو تفرجاً على اللاعبين.ثم إنها أى هذه الدنيا لا تساوى شيئاً.. اسمعها منى وعلقها فى أذنيك.. وسوف تنساها ولكن عندما تتمدد أمام الطبيب سوف تحسد مجانين كرة القدم". . وعلى هذا النحو سارت علاقة الفيلسوف والكاتب الوجودى الأكثر حبا وعشقا للحياة مع كرة القدم ، يغازلها ويحبها أحياناً ،ويسبها ويلعنها أحيانا أخرى، ويهرب منها فى أحيان كثيرة، وقد هرب بالفعل من مشاهدة مباراة مصر مع انجلترا فى نهائيات كاس العالم 1990وذهب لمشاهدة عرض للازياء!!. وقد لعنها ونقم عليها متعجبا ومندهشا من الملايين التى تتدفق على هؤلاء اللاعبين بينما يموت الأدباء الكبار من الجوع !، وهى قضية قديمة شغلت كثير من المثقفين والمفكرين ،فقد كان ان أستاذنا توفيق الحكيم يندهش كيف أن لاعب كرة القدم يكسب الملايين فى سنة وسنتين.. ويظل كل الأدبا يموتون ولا يكسبون في مائة سنة ما يكسبه لاعب بحذائه فى مباراة واحدة!!. ولذلك مات توفيق الحكيم وبقيت قولته الشهيرة: انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم ،مع إن الذى رآه توفيق الحكيم وأوغر صدره على الذين يكسبون بالحذاء لم يكن إلا مبلغاً تافهاً، مقارنة بملايين الدولارات التى يكسبها اللاعب حاليا ، ولو علم توفيق الحكيم بكل هذا كما يقول أنيس لعجلوا بوفاته.. ونحمد الله أنه لم يعلم بكل ذلك ، وأستاذنا العقاد والمفكر العربى البديع أبو حيان التوحيدى كلاهما عاش فقيراًُ ومات كذلك، وللعقاد رسائل يتسول من أصدقائه أن يساعدوه على لقمة العيش.. وأبو حيان يطلب من الأمير: سيدى أذلنى بعطفك.. قتلنى الجوع فلا تقتلنى بالصمت".! وقد اختتم أنيس هذا المقال بعبارة تجعلك تخلع القبعة ليس فقط للموهبة ولكن للثقة ،وللقدرة على التعامل مع تلك الأمور بسهولة ودون شعور بالغبن،وكانه يهون الأمر على العقاد :" إنها سلعة يا أستاذ. إنها بضاعة.. سلعتك وبضاعتنا. وسلعتنا وبضاعتها المطلوبة المرغوبة.. وسلعتنا الكاسدة" وأنيس منصور قامة كبيرة نفخر بها ،ويصعب تلخيص شخصيته وعبقريته فى سطور ،فقد حصل على عشرات الجوائز والألقاب أهمها بالنسبة له لقب أحسن كاتب مقال يومى الأول فى الأربعين عاما ماضية، وهو الكاتب الموسوعى وصديق الرؤساء والزعماء الذى يمتلك كنز معلومات فى السياسة والتاريخ والنساء والطبيخ أيضاً ،أصدر 200 كتاب وأعيد طبع كتابه 200 حول العالم أكثر 40 مرة ، وحازت أعماله شهرة واسعة ونذكر منها : " االكبار يضحكون أيضا،الذين هبطوا من السماء ،الذين عادوا إلى السماء، فى صالون العقاد كانت لنا أيام ،الوجودية ،، أرواح وأشباح ، أعجب الرحلات في التاريخ ،لعنة الفراعنة ،عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا ،مذكرات شاب غاضب ،مذكرات شابة غاضبة ،الخالدون مائة أعظمهم محمد (مترجم) ،وحصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة المنصورة وجائزة الفارس الذهبى من التليفزيون المصرى أربع سنوات متتالية،و جائزة كاتب الأدب العلمى الأول من أكاديمية البحث العلمى، فاز بلقب الشخصية الفكرية العربية الأولى من مؤسسة السوق العربية فى لندن،و جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب والعلوم الاجتماعية عام 1963، جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1981،جائزة الإبداع الفكرى لدول العالم الثالث عام 1981، جائزة مبارك فى الآداب عام 2001.