ملايين المحتجين اجتاحوا الميادين الرئيسية في أكثر من ألف مدينة بدول رأسمالية صناعية متقدمة وعلي رأسها الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان واستراليا, ودول صناعية جديدة وأخري نامية وهم يحملون رايات تطالب بالعدالة الاجتماعية وتندد بفساد وجشع الرأسمالية, ورايات أخري تشكر مصر وثوارها الذين ألهموا العالم فكرة الثورة من أجل العدالة الاجتماعية, بما في ذلك من ثاروا ضد حكومتهم في الكيان الصهيوني في وقت سابق. والمؤسف ان هذا الإلهام العالمي لهدف العدالة الاجتماعية, لم يجد حتي الآن صدي حقيقيا لدي السلطات في مصر المتمثلة في المجلس العسكري الحاكم والحكومة, فوزير المالية المصري ومن قبله رئيس الحكومة وممثلو المجلس الحاكم, لم يملوا من تأكيد أن النظام الاقتصادي في مصر هو اقتصاد السوق الرأسمالي, ناسين أنه نفس النظام الاقتصادي السائد في عهد الديكتاتور المخلوع مبارك, وهو الذي انتج البطالة والفقر وسوء توزيع الدخل وغياب العدالة الاجتماعية وانتشار الفساد والبطء الشديد في النمو الاقتصادي الحقيقي والارتفاعات غير المبررة في أسعار السلع والخدمات في سوق تسيطر عليها عصابات الاحتكار في الكثير من مجالات الانتاج والتجارة, وكان هذا النظام ونتائجه سببا رئيسيا من أسباب الثورة المصرية الكبري في25 يناير, الي جانب أهداف الحرية والديمقراطية الكاملة المتمثلة في بناء نظام يقوم علي الفصل بين السلطات والتوزان بينها واحترام حقوق وكرامة الانسان, بعد سنوات سوداء من الطوارئ سيئة السمعة والاعتقال والتعذيب وحتي القتل لأتفه الأسباب. وتستغرب السلطات في مصر وتستهجن الاضرابات والاعتصامات وتري أنها ينبغي أن تتوقف, واصفة إياها ب الفئوية وكأن هذه الفئوية عار, دون أن تنظر الي أن أغلب هذه الاضرابات والاعتصامات ناتجة عن عدم اقتراب السلطات من تحقيق أحد أهم أهداف الثورة وهو العدالة الاجتماعية. ومن المعروف أن العدالة الاجتماعية تتحقق بصورة أساسية من خلال نظم الأجور والضرائب والدعم السلعي والتحويلات ودعم الخدمات الصحية والتعليمية وتمكين البشر من كسب عيشهم بكرامة من خلال ايجاد فرص العمل باستثمارات حكومية أو بتهيئة البيئة الاقتصادية لايجاد المزيد من فرص العمل في القطاع الخاص الصغير والمتوسط والكبير والتعاوني, لأن هذا العمل هو الذي يخرجهم من دائرة الفقر من جهة, ويجعلهم جزءا من القوة المنتجة والدافعة لاقتصاد بلادهم من جهة أخري, فماذا فعلت الحكومة في هذه المجالات. كانت احتياجات اجراء تعديل جوهري في نظام الأجور تتطلب حسب وزير المالية السابق د. سمير رضوان نحو40 مليار جنيه, ووجدت الحكومة أنه لا يتوافر لديها هذا المبلغ واكتفت بإجراء تعديلات محدودة برفع الحد الأدني لأقل كثيرا من مطالب العاملين, ولأقل مما تتطلبه الحياة الكريمة للعامل بتكلفة بلغت نحو7 مليارات جنيه, بينما لم تجد مشكلة في زيادة مخصصات دعم الطاقة أو المواد البترولية من677 مليار جنيه في آخر موازنة في عهد مبارك الي955 مليار جنيه في الموازنة الحالية للعام المالي2012/2011, وهذا الدعم لا يحصل منه الفقراء والطبقة الوسطي سوي علي نحو20 مليار جنيه علي أقصي تقدير, بينما تذهب غالبيته الساحقة الي الرأسمالية الكبيرة المحلية والأجنبية وبالذات الي صناعات كثيفة الاستخدام للطاقة وتبيع انتاجها بأعلي من الأسعار العالمية, ويتضاءل الدعم الذي يحصل عليه الفقراء ومحدودو الدخل في مجال دعم الخبز والسلع التموينية, والذي لم تتجاوز مخصصاته نحو189 مليار جنيه, والتحويلات التي يحصل عليها الفقراء والمتمثلة في معاش الضمان الاجتماعي الذي لم تتجاوز المخصصات الخاصة به نحو24 مليار جنيه, أمام جبل الأموال المخصص لدعم الطبقة العليا في مجال الطاقة كما ورد آنفا, لذا فإن الجهود الحثيثة التي يبذلها وزير التضامن من أجل ضمان وصول الدعم لمستحقيه وتحسين السلع المدعومة والسيطرة علي أسعار بعض السلع الأساسية, هي جهود محمودة, لكنها تأتي بعد توزيع مشوه للدعم يقزم المخصصات الموجهة للفقراء ومحدودي الدخل ويعظم تلك الموجهة للطبقة العليا, وذلك من خلال الموازنة العامة للدولة التي أعدت في عهد وزير المالية السابق د. سمير رضوان والتي تبناها بالكامل وزير المالية الحالي د. حازم الببلاوي, ولا أدري لماذا تم تغيير د. سمير رضوان إذا كانت السياسة المالية التي يتبناها والتي تعكسها الموازنة العامة للدولة, لم يتم تغييرها. لقد بدا التغيير وكأنه أمر شخصي, رغم أن د. سمير رضوان هو علي المستوي الشخصي من أفضل أعضاء الحكومة, إن لم يكن الأفضل, والخلاف معه كان بشأن سياساته المالية وليس شخصه, لكن الشخص هو الذي ذهب بالتغيير, وبقيت السياسات!! ولو أبقت الحكومة بجميع الوسائل علي دعم الطاقة الموجه للفقراء والطبقة الوسطي, وألغت الدعم المقدم للطبقة الرأسمالية الكبيرة المحلية والأجنبية العاملة في مصر, فإنه يمكن توفير عشرات المليارات من الجنيهات التي يمكن من خلال جزء منها أن يتم إصلاح نظام الأجور وربطه بنظام صارم للعمل والثواب والعقاب, بحيث يأخذ العامل حقه, ويكون ملزما بصورة صارمة بأداء واجبه الوظيفي علي أكمل وجه. كما أن الحد الأقصي للأجر الذي يحقق درجة من العدالة الاجتماعية لم يتحقق حتي الآن, وكان وزير المالية السابق د. سمير رضوان قد اقترح جعل الحد الأقصي للدخل الشامل لموظف العموم36 ضعفا للحد الأدني للدخل الشامل الذي حدده ب700 جنيه, وذهب الرجل دون أن يطبق هذا النظام الذي كان محل اعتراض من القوي و الحركات السياسية والباحثين المستقلين الذين كانوا يرون أن الحد الأقصي لدخل موظفي العموم ينبغي ألا يزيد علي15 ضعف الحد الأدني, والغريب أن وزير المالية الحالي قال بعد فترة إنه يعد مشروعا للحد الأدني, ثم تبني نفس المشروع والرقم الذي تم وضعه في عهد د. سمير رضوان وهو جعل الحد الأقصي36 ضعفا للحد الأدني, علي أن يبدأ التطبيق في بداية العام المقبل, يعني مجرد كلام, لأنه عندما يأتي يناير القادم لن تكون هذه الحكومة المعينة من المجلس العسكري في الحكم بناء علي الانتخابات العامة ونتائجها, وللعلم فإن عدالة توزيع الدخل من خلال نظام الأجور والدعم والتحويلات وتشغيل العاطلين تؤدي لتعزيز فعالية النمو الاقتصادي. ويكفي في هذا الصدد أن نعلم أن معدل النمو الاقتصادي في البرازيل بلغ27% خلال الفترة من1993 حتي عام2003, في ظل توزيع سيئ للدخل, كان أغني10% من السكان يحصلون من خلاله علي93 ضعف أفقر10% من السكان, ومع تحسين توزيع الدخل في عهد رئيس الوزراء اليساري لولا دي سيلفا, مما أدي الي تراجع حصة أغني10% من السكان الي35 ضعف أفقر10% في عام2009, بلغ متوسط معدل النمو نحو44% سنويا رغم كل عواصف الأزمة الاقتصادية العالمية, وتحولت البرازيل من العجز الي الفائض, وأصبحت لديها احتياطيات ضخمة. أما نظام الضرائب فهناك إصرار علي إبقاء النظام الضريبي الفاسد القديم دون إجراء أي تغيير جوهري, رغم أن صندوق النقد الدولي, المعقل الفكري للرأسمالية الحرة يري أنه من الطبيعي وضع نظام ضريبي تصاعدي وإخضاع المكاسب الرأسمالية في البورصة أو عوائد الودائع للضرائب, أما تشغيل العاطلين من خلال استثمارات عامة جديدة أو اكتتابات عامة لبناء مشروعات خاصة جديدة ترعاها الدولة, أو تنشيط الاستثمار الخاص بكل أحجامه, فلم تحدث تغييرات جوهرية فيه, في ظل تعقيدات إنشاء المشروعات ومستوي الفساد الإداري وبقاء مؤسسات مكافحة الفساد والقوانين الخاصة بها كما كانت في عهد مبارك, فضلا عن الانفلات الأمني الذي هو مسئولية الدولة, إن العدالة الاجتماعية التي ألهمت مصر كل العالم بها, في حاجة الي اجراءات وشجاعة في التقدم نحو الاستجابة لمطالب الشعب الذي سيظل يطالب بها كهدف رئيسي لثورته. المزيد من مقالات أحمد السيد النجار