أعياد أكتوبر تجمع دوما بين حرب العبور المجيدة ورفع أعلام الشرف علي سيناء من ناحية, وبين احتفال دول العالم الطالع وحركات التحرر في العالم بذكري تأسيس جمهورية الصين الشعبية في اليوم الأول من هذا الشهر. كان الحديث مع حلقة شبابية طليعية وجاء ذكر مؤتمر باندونج( ابريل5591) الذي جمع زعماء حركات التحرر وثورات دول الشرق سنوات قلائل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لإعلان بداية مرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية, تتصدرها دول وشعوب الشرق الحضاري, ومصر في قلبها آنذاك, حيث مثلها بجدارة ملحوظة الرئيس جمال عبدالناصر جنبا الي جنب مع صفوة من وجوه آسيا وإفريقيا مشيو انلاي ونهرو وسوكارنو, بداية حركة تضامن شعوب آسيا وإفريقيا ومنها الي حركة عدم الانحياز, كنت أنتظر تدفق الأسئلة, ولكن دائرة الحديث تغيرت الي غير ذلك من المعاني غير المألوفة, تساءلت عن غياب الحديث عن الامبريالية, فكان جواب صديق شاب أن هذا الموضوع ابتعد عن الأذهان لأن الدنيا تغيرت. الدنيا تغيرت ولاشك, الي درجة أن مقال صديق كريم شارك في وفد سياسي فكري مرموق الي الصين منذ أسابيع عبر عن انبهار كاتبه بأن الناس في الصين يصنعون كل ما يصنع الغرب, وأن معظم زوار مصر الي الصين مهتمين بشراء سلع لتنشيط التجارة الداخلية, وكذا العلاج الطبي الذي شفاه من ألم مباغت هناك والحمد لله كان علي مستوي عال من الكفاءة, وتساءلت: أين نحن من أيام باندونج؟ أين نحن من تغيير العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ أين نحن من صياغة العالم الجديد والصين في قلبه وطليعته؟ أين نحن من رحلة نهضة الشرق التي جمعت بيننا, عبر مساراتنا المتنوعة, منذ مطلع القرن التاسع عشر, خاصة منذ انطلاق الحركات الوطنية في مطلع القرن العشرين؟ تمر الأيام, السنة تلو السنة, الي أن جاءت أيام أكتوبر هذا العام مشحونة بتطورات لافتة تحتفل مصر بالآمال المتاحة بفضل وثبة شبابها منذ52 يناير, هذا بينما تحتفل الصين بتواكب أعياد حددت نهضتها في قلب عالمنا الجديد, بدأت هذه الاحتفالات بالذكري التسعين لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني في شانجهاي عام1291, ثم جاء الاحتفال بالذكري الثانية والستين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية في أول أكتوبر من هذا الشهر, وقد رأت رئاسة الدولة والحزب في الصين أن تحتفل بالذكري المئوية لتأسيس الحزب الوطني الكومينتانج, أي الحزب الوطني الصيني بقيادة الدكتور ضون يايستير عام1191, علامة لنهاية عصر الاحتلال الأجنبي لقارة الصين, وفي هذا الجو نري الصين تحتفل بكل هيئاتها برسالة المعلم الأول كونفوشيوس. تواكب الاحتفالات السياسية والفكرية في الصين في هذا الشهر من العام الحالي, لم يحظ بالاهتمام اللازم من الإعلام العالمي, فإذا كان أمر الاحتفال بذكري تأسيس الحزب الحاكم والدولة الصينية المعاصرة أمر منطقي طبيعي, فإن الاحتفال بثورة1191 وتأسيس الحزب الوطني والتأسيسي يأتي ليؤكد رؤية وسياسة الصين الرئيسية في المجال الوطني, هي وحدة الأمة الصينية كما يعلن شعار أمة واحدة ونظامان ليؤكد وحدة الصين وتايوان, بعد انضمام هونج كونج وماكاو الي دائرة الدولة الصينية المركزية مع الاحتفاظ بحد استقلالية الإدارة المحلية. ولكن اللافت في هذه الاحتفاليات انما هو تتويجها برسالة المعلم الأول كونفوشيوس, ومن هنا شعرت بأنه أصبح لزاما علينا أن نمعن النظر في عدد من النواحي المركزية لصعود الصين علي النحو الذي يشهده عالمنا اليوم. أولا: أن الجمع بين الاحتفالات السياسية من ناحية وتعاليم المعلم الأول, كبير الفلاسفة كونفوشيوس, يؤكد معني وحدة الحضارة وتواصل عصورها وكذا نسيجها التكويني عبر العصور. ثانيا: مادام مسار الثورة كان علي هذا النحو فإن الهدف منها ولاشك لم يكن تحديث الاقتصاد ولا الاستقلال السياسي, كان الهدف علي الدوام هو الحفاظ علي معاني القوة والقدرة علي الابداع من أجل تحقيق نهضة حضارية, خاصة بعد صحوة الصين منذ بداية القرن التاسع عشر وتأكيد قدراتها الحركية منذ مطلع القرن العشرين. كانت هذه لحظة تأصيل الصحوة السياسية في أرضيتها الحضارية الخصبة, وكان لابد من تأكيد معاني مشاركة جماهير الشعب الواسعة في ادارة صحوتها, ومن هنا كان التفات القيادات الجديدة الي تعاليم المعلم الأول كونفوشيوس. ثالثا: السؤال الأهم عبر الأجيال التي شقت فيها الصين طريقها موحدة عبر الحروب والأزمات, الريادة والانكسار, يتلخص في مفهوم الجدلية الاجتماعية, أي كيفية معالجة التناقضات والصراعات الداخلية, للحفاظ علي وحدة المسيرة والمجتمع القومي الذي كان علي الدوام حاملا لواء حضارة متميزة علي الضفة الأخري من الشرق التي تمثلت في حضارتنا المصرية. ها نحن قد وصلنا علي عتبة دائرة التلاقي بين تراث حضارة الصين العظيم من ناحية, وبين تحرك الصين شعبا ودولة في تناقضات وصراعات وتحديات المجتمع الدولي, خاصة في مرحلة حروب الامبريالية لاجهاض استقلال الشعوب وصحوة القوميات, وفوق هذا وذاك الحضارات الكبري وفي مقدمتها حضارة الصين. مجرد مدخل الي مسيرة حضارة الصين العظيم بمناسبة تواكب أعيادها. قال صاحبي: أين نحن من هذا كله؟ أين اعلام حضارتنا المصرية السبع ألفية من تركيا اليوم؟ ماذا؟ ماذا نقول؟ ان نترك هل الملف الي رحلة في الأعماق في وقت لاحق ؟ اليوم حدثنا: كيف استطاعت الصين أن تتعامل مع أهوال التاريخ؟ كيف تواجه اليوم تحديات وجودها السلمي الي طريق عالمنا الجديد رغم الحصار والتحديات؟ وهل تفيد دروس حضارتها العريقة في اضاءة الطريق؟.. المزيد من مقالات د.أنور عبد الملك