مصطلح الربيع العربي الذي أطلق علي التحولات الكبري التي تشهدها المنطقة العربية الآن, والتي بدأت بتونس ومصر, ثم امتدت إلي اليمن وليبيا وسوريا والبحرين وغيرها مما سيلحق بها, ربما أعطت انطباعا متعجلا أو غير دقيق عن طبيعة المرحلة الراهنة التي توصف بالانتقالية, لأن نجاح الثورات, خاصة الديمقراطية منها لا يقاس فقط بقدرتها علي الإطاحة بالنخبة القديمة, بقدر ما يقاس بقدرتها علي إقامة نظام بديل لذلك الذي قامت من أجل إسقاطه. وإذا كانت كل من تونس ومصر نجحتا في الشق الأول, وهو تنحية النخبة القديمة, بخلاف الحالات الأخري التي تسير علي الطريق, إلا أنهما أيضا تعدان نموذجين واقعيين للتحديات التي تفرضها المرحلة الأصعب. فعلي الرغم من النجاح النسبي الذي حققته كل من الثورتين التونسية والمصرية إلي الآن, ومع الاعتراف بوجود تمايزات وفروقات بين الحالتين, خاصة من الزوايا الثقافية والمجتمعية, إلا أن اقتراب موعد أول انتخابات برلمانية بعد الثورة (تونس في أكتوبر, ومصر في نوفمبر) مازال يثير العديد من المؤشرات التي تسير في عكس الاتجاه, وربما تكون أكثر وضوحا في الحالة المصرية, إذ إن حالة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي في مصر أكثر حدة, خاصة ب الإسلامي العلماني, والذي انعكس بشدة علي إجراءات إعداد الدستور الجديد, والصراع حول وضع ما يسمي ب المبادئ فوق الدستورية التي تحمي حقوق المواطنة والأفراد والحريات العامة والخاصة عموما, فضلا عن التوتر الديني الطائفي, وصعود التيارات السلفية وتصدرها المشهد السياسي منذ25 يناير, يضاف إلي ذلك, الانقسام الحادث حول قانون الانتخابات وإعادة تقسيم الدوائر. فالعديد من القوي السياسية والحزبية تحفظت علي القانون الجديد الذي يجمع بين النظام الفردي والقائمة النسبية (30% للأول, و70% للآخر). مع توسيع المساحة الجغرافية للدوائر الانتخابية علي اعتبار أن ذلك سيؤدي إلي إفساح المجال أكثر لتأثير المال والعصبيات العائلية والقروية علي العملية الانتخابية بأكثر من البرامج السياسية والحزبية, ومن ثم يعطي فرصة أكثر لعناصر النظام القديم (من أعضاء الحزب الوطني الحاكم المنحل) والقوي التقليدية للفوز في الانتخابات القادمة, اعتمادا علي عنصري المال والنفوذ, خاصة أن كثيرا من منهم عاد للعمل السياسي من خلال إنشاء أحزاب جديدة مثل (الحرية, المواطن المصري, مصر القومي, الاتحاد, ومصر التنمية). وهذا الوضع يختلف عما هو عليه الحال في تونس, حيث منع أعضاء الحزب الحاكم السابق من العمل السياسي أو الترشح للانتخابات, وهو ما دعا إلي القول إن الشهور المقبلة قد تشهد إعادة إنتاج النظام القديم, وليس مؤكدا أن التعديل الاخير الذي يسمح للحزبيين الترشح كمستقلين أيضا سيكون كافيا للحد من هذه الانتقادات! إذن هناك عوامل تمايز أو اختلاف نسبي بين الحالتين التونسية والمصرية بحكم خصوصية كل منهما مع اشتراكهما في قيادة ما سمي ب الربيع العربي, وإن ظلت حالة مصر لها دلالاتها الخاصة وتعقيداتها بحكم حجمها من ناحية, وبحكم العناصر الثقافية والمجتمعية والسياسية معا التي سبقت الإشارة إليها. فالقوي السياسية منقسمة, والجديدة أقل حضورا, والقوي الإسلامية بدأت تتخذ قراراتها ومواقفها منفردة عن باقي القوي الثورية, وهو ما بدا واضحا في المليونيات الأخيرة كما أن القوي الحزبية القديمة (سواء انتمت للحكم أو للمعارضة سابقا) عادت لتتصدر الساحة وتحتل مكانها القديم مرة أخري, ويستمر الشد والجذب مع المجلس العسكري الذي يدير المرحلة الانتقالية الحالية بالإنابة عن قوي الثورة والتغيير! والواقع أن هذه الملامح والسمات التي تسود المرحلة الانتقالية لا تبدو إيجابية بمعايير كثيرة, كما أنها تعكس بشكل عام طبيعة الثورات العربية الحالية, والتعقيدات التي تصاحبها والمرجح أن تصاحبها لفترة قد تطول من الزمن, فالثورات خاصة إذا كانت من أجل الحرية والديمقراطية تقسم إلي أنماط. فهناك ما يطلق عليه النمط الشعبوي الذي تخرج فيه الجماهير بحماسة كبيرة لإسقاط نظام تسلطي عانت منه إلي درجة الانفجار, ولكن دون أن يجمعها بالضرورة إطار فكري أو أيديولوجي واحد أو واضح, أو تحركها قيادة واحدة. وفي كثير من الأحيان تتزايد أعداد جماهير الثورة حتي دون اتفاق مسبق بين قطاعاتها المختلفة فتعبر عن حالة غضب شديدة لما كان قائما وظالما في آن واحد. وبتحقيق الهدف المعلن عنه (إسقاط النظام), أوحتي دون الوصول إلي هذه المرحلة, لكن ربما بسقوط رأس النظام ومعاونيه المقربين يبدأ الانقسام والصراع. وهناك في المقابل نمط يعتمد علي قائد ذي كاريزما ينوب عن الجماهير التي تسلم له أمر قيادتها مختارة حتي ولو انتهي الحال باستبدال الاستبداد القديم باستبداد جديد! وأخيرا يأتي نمط ثالث ويعد الأفضل للثورات الديمقراطية, وهو النمط التوافقي القائم علي مبادئ حاكمة واضحة وغير مختلف عليها, والذي يتوافق فيه الشعب علي أهداف محددة, ويكون له قائد توافقي أيضا وليس بطلا ملهما! ويمضي الاثنان معا لتحقيق التغيير المطلوب.والواقع أن أغلب الثورات في العالم لم تقع ضمن هذا التصنيف الكلاسيكي بدءا من الثورة الفرنسية, إلي البلشفية في روسيا, إلي ثورة 1952 في مصر, و1979 في إيران, وانتهاء بأوروبا الشرقية بموجتيها الأولي مثل (بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا) أو الثانية مثل (جورجيا وصربيا وأوكرانيا), وربما تقل نسبة الثورة المضادة في النمطين الأخيرين, حيث تكون القدرة علي إقصاء القديم وتوحيد الجديد- دون تدرج- أمرا محسوما, حتي وإن أدي ذلك إلي نظام غير ديمقراطي أيضا. أما النمط الأول وهو الذي يمكن أن تندرج تحته الثورات العربية الحالية, فهو الأكثر تعرضا للثورات المضادة وللتعثر والانتكاس, وربما إلي ردة عكسية أيضا! فليس هناك توافق علي أي شئ تقريبا لا من ناحية الإصلاحات السياسية أو الدستورية أو الاجتماعية الاقتصادية, والتي يبدو أنها أهملت تماما. فهناك ارتجال, وانقسام, وتوتر ديني, وغياب للهوية, وتشتت بين ملفات الداخل والخارج في آن واحد, ودون ربط بينهما, وحتي دون حسابات المكسب والخسارة. فمعروف مثلا أن مصر لن تتخلي عن تعهداتها الدولية والإقليمية, وهو الأمر الذي صرح به المجلس العسكري منذ اليوم الأول بكل وضوح. ومعروف أن للسياسة الخارجية تعقيداتها, ومع ذلك فقد أعطيت مسألة اقتحام السفارة الإسرائيلية أولوية غير مفهومة حتي في الوقت الراهن ضمن مظاهرات تطالب بالديمقراطية والدستور, وكانت النتيجة إعادة قانون الطوارئ, ولكن هذه المرة بموافقة كثير من القوي السياسية والحزبية (ضمنيا أو علنيا) وحتي بإقرار كثير من المواطنين العاديين له في ظل استمرار حالة الارتباك الأمني السائدة الآن. فقد أعطي المشهد الأخير انطباعا لدي البعض ببداية انهيار الدولة وليس سقوط النظام! وفضلا عن ذلك, فليس هناك توافق علي المبادئ التي يجب أن تحكم عملية الإصلاح. ففي حالة أوروبا الشرقية, مثلا كانت تلك الأمور واضحة بغض النظر عن المسلك الذي اتخذته (دولة مثل بولندا علي سبيل المثال في الجمع بين القديم والجديد, والتدرج في الإصلاحات, أو في حالة أخري مثل أوكرانيا التي أخفقت في مرحلتها الأولي, وتعرضت لردة ما قبل أن تعيد المسيرة الديمقراطية), في كل هذه الحالات كانت الخطوط العريضة والمبادئ الأساسية التي تحكمها واضحة ومتوافقا عليها وتدور حول تكريس حرية الفرد مقابل النزعة الجماعية في الفكر الشيوعي القديم, التحول إلي نظام رأسمالي مقابل النظام الاشتراكي الذي فرضه الاتحاد السوفيتي لعقود علي الدول التابعة له فضلا عن الانفتاح علي الغرب عموما, بعبارة أخري كان الهدف واضحا في الانتقال إلي الديمقراطية الليبرالية. هذه المبادئ الحاكمة الواضحة تبدو غائبة في الحالة الثورية العربية, ولا يعني ذلك بالضرورة القول بجذرية وسرعة الإصلاحات, ولكن المطلوب هو وضوح الرؤية والأهداف والخطوات, وهو مانفتقده إلي الآن المزيد من مقالات د . هالة مصطفى