لم يوجد بعد في أي بلد من بلاد العالم الديمقراطية نظام انتخابي يرضي الجميع, ويتسم بالكمال, لذا فإن مصلحة عموم المصريين, وانجاز أول خطوة كبري علي طريق تحقيق مطالب ثورة25 يناير الديمقراطية يتطلبان التوقف فورا عن الانشغال بعيوب النظام الجديد لانتخابات مجلسي الشعب والشوري, والانصراف بكل الجهد والموارد إلي ضمان أفضل النتائج الثورية الديمقراطية من الانتخابات المقبلة. إن بريطانيا أعرق دول العالم الحديث في تقاليد وتطور الحكم الديمقراطي شهدت منذ عده أشهر استفتاء شعبيا حول تغيير نظامها الانتخابي المتجذر منذ بداية العصور الحديثة من الفردي إلي القوائم أو المختلط, ولكن الأغلبية رفضت هذا التحول, علي الرغم من استمرار رفض قوي مهمة في المجتمع والنخبة لهذا النظام الفردي, وذلك لعيوبه المعروفة, وأهمها إهدار أصوات وبالتالي إهدار تمثيل ما يسمي بالأقلية التي قد تصل في معظم الدوائر, وعموم الدولة إلي49% ومن هذه العيوب أيضا أن النائب يمكن أن ينجح في حالات بعينها بأقل من50% من أصوات الناخبين في دائرته. وهنا لابد أن نعرف أن الأحزاب البريطانية الكبيرة التي يعمل النظام الانتخابي الفردي لمصلحتها اضطرت لقبول الاستفتاء رضوخا لقوة المطالبين بالإصلاح واعترافا منها بعيوب النظام المعمول به, وكذلك لابد من التذكر أن هذا النظام خضع علي مر القرون لأكثر من إصلاح جذري. أما النظام الانتخابي الأمريكي بكل تعقيداته, فقد أصبح بالفعل عبئا علي الديمقراطية الأمريكية لطول ما يبدده من وقت, ولكثرة ما يفتحه من أبواب الفساد في تمويل الحملات الانتخابية, وما يفتحه بالتالي من أبواب لنفوذ أصحاب المصالح الكبري علي الكونجرس, وعلي البيت الأبيض نفسه, وقد فشلت حتي الآن كل محاولات إصلاح هذا النظام, ولا يزال مشروع السناتور جون ماكين لإصلاح تمويل العملية الانتخابية الأمريكية مركونا في أدراج الكونجرس منذ أكثر من عشر سنوات, أما مشروع الرئيس الأسبق جيمي كارتر لجعل الفترة الرئاسية خمس سنوات غير قابلة للتجديد, ولتمويل حملات الانتخابات للبيت الأبيض والكونجرس من ضريبة عامة تخصص لهذا الغرض.. هذا المشروع لايزال معلقا في الهواء منذ ثلاثين عاما, ولكن الرجل لا يكل ولا يمل من إعادة طرحه في كل دورة انتخابية. وما يسري من نقائص علي النظامين الانتخابيين في كل من بريطانيا والولايات المتحدة يسري كما سبق القول علي النظم الانتخابية في كل دول العالم, وبما أن موضوعنا الأصلي هو الانتخابات المصرية بعد ثورة25يناير فلا داعي للاستطراد في الحديث عن الآخرين, ونعود لنتناول شأننا الخاص. إن اعتراضات غالبية الأحزاب والقوي السياسية المصرية علي النظام الانتخابي الجديد لابد أن تكون صحيحة في معظمها, ولكن حجج المحبذين لهذا النظام الذي يخصص نسبة ثلثي المقاعد البرلمانية للقوائم الحزبية والثلث المتبقي للمرشحين بصفاتهم الفردية هي أيضا صحيحة في مجملها, وليس في الأمر لغز بما أن النظم الانتخابية في كل الدنيا لا تتسم بالكمال, كما سبق أن رأينا, ومن ثم يصبح السؤال أو التحدي أمام ديمقراطية مصر الوليدة بعد الثورة هو كيف نحد من أثر العيوب إلي أدني حد ممكن ونعظم من أثر المزايا إلي أقصي حد ممكن؟ أولا ما هي العيوب؟ بالإضافة إلي العيوب المتكررة في كل نظام انتخابي فردي هناك مخاوف حقيقية في ظروف مصر الحالية من تسرب عدد كبير من فلول وأنصار النظام السابق إلي البرلمان بمجلسيه من خلال الثلث المخصص للمقاعد الفردية, وذلك اعتمادا علي المال السياسي, والعصبيات القبلية والعائلية, والتقاليد الريفية, وهناك أيضا تخوف جدي من نفوذ الفاسدين من بقايا نظام مبارك علي بعض المرشحين والناخبين, الأمر الذي يجعل المنافسة غير متكافئة, لا سيما وأن الأحزاب الجديدة المنبثقة عن ثورة25 يناير لاتزال طرية العود تنظيما وتمويلا واتصالا بالقواعد الانتخابية في دولة يبلغ تعدادها80 مليون نسمة. ولكن ما هي إذن حجج القوي الأخري أفرادا وجماعات التي تعارض الأخذ بنظام القوائم وحدها؟ أولا هناك الحجة الدستورية, وهي تستند إلي حكمين سابقين للمحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية انتخابات جرت في مصر من قبل بنظام القائمة, مما أدي إلي بطلان البرلمان المنبثق من تلك الانتخابات, وحله, والدعوة إلي انتخابات جديدة, ويري هؤلاء في كتاباتهم وأحاديثهم أن القول بأن حكم عدم الدستورية السابق كان يستند إلي دستور1971 الذي سقط( أو عطل في رأي بعض فقهاء الدستور), ومن ثم فلا يجب الاعتداد به, هو قول مردود عليه بأن هذه المحكمة الرفيعة نفسها هي من تأسيس دستور1971 وهي قائمة بكل جلالها واختصاصاتها, بل يذهب بعضهم ذ ذ الانحياز الواضح ضد النظام الفردي. أما الحجج السياسية لرافضي الاعتماد علي نظام القائمة وحده في الانتخابات المقبلة, فمن أهمها أن الأحزاب جديدها وقديمها تعاني نقصا في الخبرة والتنظيم, وإذا كان صحيحا القول وهو صحيح أن ذلك من فعل النظام السابق, فإننا أمام حقيقة واقعة, وهي أن هذه الأحزاب لا ينخرط في عضويتها سوي نسبة قليلة من الشعب المصري ككل, وعليه فهي غير مؤهلة حاليا لملء الساحة السياسية بالكامل, كما لا يصح حرمان ممثلي غير الحزبيين من الترشيح, وتمثيل ناخبيهم, وهنا أيضا يوجد تخوف جدي ومشروع كانت القوي الجديدة التي ظهرت بعد الثورة هي أول من تحدث عنه باستفاضة, وهو أن القوائم قد تعطي الجماعات الأكثر تنظيما, وتمويلا, والأكثر انضباطا من الناحية الإيديولوجية فرصة اكتساح دوائر القائمة, والإشارة هنا موجهة كما نعرف جميعا, إلي حزب الحرية والعدالة المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين, وغيره من الأحزاب المنبثقة عن جماعات دينية أخري. نذكر الآن بالسؤال السابق, وهو: كيف نحد من أثر عيوب النظام الانتخابي القائم علي الثلث والثلثين إلي أدني حد ممكن؟ وكيف نعظم من مزاياه إلي أقصي حد ممكن؟ بداية لابد أن نثني علي كل القيادات والجماعات السياسية التي طرحت وتبنت فكرة القوائم الموحدة من عدة أو من عدد كبير من الأحزاب, فهذه خطوة كبري نحو التوافق الوطني المنشود, وضمان أكيد لعدم اكتساح الأقوي نسبيا للأضعف نسبيا. وفضلا عن أن زيادة النسبة المخصصة للقوائم من النصف إلي الثلثين قد أضعفت تلقائيا جزءا لا يستهان به من عيوب النظام الفردي, فإنه لايزال في الإمكان تفعيل كثير من الوسائل للحد أكثر وأكثر من تلك العيوب, ويأتي إصدار وتفعيل قانون الغدر بعد تعديله في مقدمة هذه الوسائل, بحيث يصبح أداة قانونية لحرمان مفسدي الحياة السياسية في ظل النظام السابق من الترشح والتصويت, إما للدورة البرلمانية المقبلة, وأما لأكثر من دورة حتي تترسخ قيم ووجوه ثورة52 يناير. ورغم أنني من المحبذين لتفعيل قانون الغدر لدورة برلمانية واحدة, فإنني أدرك وألفت نظر القراء إلي أن فريقا كبيرا من المفكرين والفقهاء يعارضون إحياء هذا القانون, ويرونه افتئانا علي الديمقراطية ذاتها. كذلك فإنه مطلوب وبشدة تفعيل قوانين تحديد الانفاق المالي علي الحملات الانتخابية وتجريم الرشوة الانتخابية مع تكريس الاتجاه الحالي لتغليظ العقوبة الجنائية عليها, وعلي غيرها من الجرائم زس,,, العملية الانتخابية, جنبا إلي جنب مع الضمانة الكبري المتمثلة في الإشراف القضائي الكامل علي كل إجراءات عملية الانتخاب بدءا من الترشح حتي إعلان النتيجة طبقا لقاعدة قاض لكل صندوق والحياد الكامل للشرطة, ووقوف المجلس الأعلي للقوات المسلحة علي مسافة واحدة من كل القوي السياسية. لقد تحدد الجدول الزمني للانتخابات, وطبقا لهذا الجدول لم يتبق عند ظهور هذه السطور سوي21 يوما لفتح باب الترشيح لانتخابات مجلس الشعب, وفي هذه المدة القصيرة نسبيا لابد من الإسراع بتفعيل ما لم يفعل بعد من ضمانات جيدة ونزاهة الانتخابات, وسد منافذ تسرب فلول النظام السابق, وتغليب روح التوافق علي عقلية التناحر, والتركيز علي الاستراتيجيس زس ليست نهاية العالم, ولا نهاية مسيرتنا نحو بناء دولة المواطنة الدستورية الديمقراطية الحديثة في مصر, ولكنها مجرد البداية, وفي وسع ممثلي الشعب في البرلمان الجديد المنتخبين علي مباديء ثورة52 يناير الذين سيحرزون الأغلبية بالقطع أن يأخذوا الأمر بأيديهم ويضعوا بطريقة ديمقراطية توافقية النظم والقواعد التي يرونها أكثر ملاءمة. ثم هناك ملاحظة لا تقل أهمية عن كل ما سبق, وهي أن هذه الانتخابات هي الطريق الوحيد الصحيح والسريع للقضاء علي كل الهواجس المنتشرة بين كثيرين حول رغبة المجلس الأعلي للقوات المسلحة البقاء في السلطة, وهي هواجس تخلق توترا نحن جميعا في غني عنه, كما أن الانتخابات توفر للمجلس الأعلي الأرضية التي لا يجد نفسه فيها متنازعا عليه بين مطالب القوي السياسية المتصارعة, بحيث إذا أرضي هؤلاء أغضب أولئك, وبحيث يجد نفسه مضطرا للتريث أكثر من اللازم لدرجة البطء في انتظار توافق هذه القوي أو توافق العدد الأكبر منها كما أشار بحق اللواء عبد الحميد عمران في مقاله المنشور بالأهرام يوم الاثنين الماضي, بل إنني أذهب إلي أبعد من ذلك لأقول إن مصر ليس أمامها الكثير من الوقت أمام المانحين الدوليين, وهيئات التمويل الدولية للتنمية حتي لا تبقي أمامهم دولة محكومة عسكريا, فتفقد بذلك أهم شروط الحصول علي معونات التنمية, في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلي استعادة تدفق هذه المعونات, وإلي الاستثمارات الأجنبية, ليس فقط لتعويض ما ضاع من قدراتنا ومواردنا بسبب الثورة, وهو قليل لحسن الحظ, كما أنه ثمن طبيعي وزهيد لثورة كانت حتمية, ولكن أيضا لتحقيق الهدف الأسمي للثورة نفسها, وهو بناء مصر الديمقراطية الحديثة القوية من داخلها وفي إقليمها وبين دول العالم, ولا شئ أكثر من قوة الاقتصاد هو الذي يصنع هذه المكانة. [email protected]