من البداية وعلي بلاطة أقول إنني ضد إلغاء وزارة الآثار وضد تبعية الأمانة العامة لشئون الآثار لمجلس الوزراء, لتكون إحدي الإدارات وما أكثرها التي تتبع رئيس الوزراء مباشرة, ورئيس الوزراء في مصر هنا والآن مثقل بالعديد من المشاكل اليومية التي تفرض نفسها عليه, ولا يمكن تأجيلها للغد, ولدي أسبابي لهذا الرفض. ملابسات إلغاء وزارة الآثار وتبعية أمانة الآثار لمجلس الوزراء كثيرة والحكايات أكثر من الهم علي القلب, وأنا لا يعنيني هنا الأشخاص, ولا وزير الآثار المنصرف, ولا وزير الآثار الذي كان من المفروض أن يستوزر ولا حكاية استبعاده في اللحظات الأخيرة, بل إن ما يعنيني بالدرجة الأولي هو الشأن العام وأهمية الأشخاص تأتي في المقام الثاني, لأن مصر وآثارها أهم ألف مرة من أي شخص مهما كان هذا الشخص. لست في حاجة للقول إن في مصر 75% من الآثار الموجودة فوق الكرة الأرضية, وأن النسبة الأكبر من هذه الآثار موجودة في مدينة الأقصر, فك الله أسر وسجن محافظها الصديق الدكتور سمير فرج, إذن آثار مصر ثروة أكثر من نادرة تشكل جزءا جوهريا من تراث البشرية كله, فكيف نفصل هذه الآثار عن وزارة الثقافة, وكان ذلك هو الخطأ الأول الذي تبعته أخطاء أخري كثيرة, ولا حل أمام مصر سوي عودة آثار مصر لوزارة الثقافة علي أن تسمي: وزارة الثقافة والتراث. ولا يوجد أي سبب مادي أو عملي لمثل هذا الاقتراح, كل الأسباب معنوية تدور حول كينونة مصر وتاريخ مصر وتراث مصر, وتفرد مصر عبقرية مكان مصر وأهمية أن ينظر المصريون الآن لتاريخهم بحب وليس بغضب وبرغبة في تعلمه وليس انطلاقا من رفضه أو محاولة الهروب منه. في محاولة نفي الجانب المادي لمطالب العائد من عودة الآثار لوزارة الثقافة أقول إن نسبة من عوائد هذه الآثار كانت تمول الكثير من الأنشطة الثقافة, وذلك من خلال ميزانية صندوق التنمية الثقافية الذي فكر فيه وانشأه فاروق حسني عندما كان وزيرا للثقافة, وهذا الصندوق مسئول عن تمويل العديد من الأنشطة الثقافية في مصر, والذي حدث أنه بعد فصل الآثار عن الثقافة فكر الأثريون في منع هذا التدفق المالي من الآثار علي الثقافة, وتم اللجوء إلي مجلس الدولة الذي أفتي وفتوي مجلس الدولة ملزمة باستمرار الوضع علي ما هو عليه, وأن هذه الأموال يجب أن تصل إلي وزارة الثقافة كما كانت من قبل. إذن لا يوجد أي بعد مادي وراء مطالبتي, وأعتقد أن موقف الأثريين الذين كانوا يريدون الاستقلال عن الثقافة للاحتفاظ بمثل هذا المال لم يعد السند المالي مبررا له, بل إن وزارة الثقافة وهي وزارة لا موارد مالية لها وتأتي ميزانيتها من العائد المالي من زوار الآثار قد أصبحت بلا ميزانية ولولا أنه قدمت للوزارة 600 مليون جنيه معونة سيادية ما وجد الأثريون مرتباتهم. بل إن فصل الثقافة عن الآثار مازال حتي الآن فصلا نظريا يحتاج لتعديل تشريعي لم يصدر بعد, فوزير الثقافة المصري مازال وزيرا للثقافة والآثار, رغم كل التعديلات التي تمت في أرض الواقع, إلا أنه من حيث أوراق الدولة المصرية مازالت وزارة الثقافة هي وزارة للآثار. أعرف الزخم العاطفي والأسباب المعنوية التي تحرك جماهير الأثريين في مصر لحكاية الفصل, وربما تحركهم قلة من المشتاقين الذين يتصورون أن وزارة خالية وبلا وزير, هي فرصة نادرة لوجود كرسي خال يمكن أن يقفز عليه هذا المشتاق أو ذاك, مع أن كرسي الوزير الآن خازوق أكثر منه كرسي, ليس لقصر المدة ولا للطبيعة الانتقالية للحكم ولا لأن المجهول أكثر ألف مرة من المعلوم في حياة المصريين الآن, ولكن لأن أجدادنا قالوا لنا إن كرسي وزير بلا سلطات هو كرسي من الأشواك. يبقي الجانب المعنوي, ذلك أن عودة هذه الآثار إلي وزارة الثقافة حتي باعتبارها تراثا مصريا ماديا, وإحياء فكرة التراث المعنوي إن هذا من الأمور المهمة التي ربما كان المصريون بأمس الحاجة إليها الآن, فإن كانت مصر تشهد حالة من الطلوع الجديد ومن التقائها بنهارها الذي غاب عنها طويلا, فالإنسان الذي يقف وراء تاريخ قديم وحضارة معمرة تكون ظروفه أفضل من التعامل مع الحاضر والمستقبل من ذلك الإنسان الآخر الذي يعاني من الجوع للتاريخ, والذي يقضي معظم وقته في البحث عن حضارة, ومن يقرأ الأدب الأمريكي بعناية يكتشف حالة الفراغ والخواء في روح وضمير الشخصية الأمريكية, لأنها تعيش زخم حاضر كبير, وأمامها مستقبل زاخر لكنها أمة بلا ماض. من يقرأ التراث الروحي والمعنوي لأهل مصر الذين وضعوا أول حضارة في التاريخ قامت علي الكفاح ومقاومة النسيان والبحث عن الخلود, وتميزت بذلك عن حضارة الفلاسفة التي قامت في أثينا وحضارة الفتوحات العسكرية التي عرفتها روما, إن مصر أيها السادة عرفت حضارة لخصها جيمس هنري بريستيد في كلمتين: فجر الضمير وهذا الفجر القديم علينا أن نعتبره لا يقل أهمية عن الأهرامات وأبو الهول وطريق الكباش وكل هذه الأشكال لحضارة مادية موغلة في القدم. لا أقلل من الحضارة المادية, لكن حضارتنا المعنوية والروحية والضميرية ربما تفوقت عليها, وعندما تصبح لدينا وزارة للثقافة والتراث, وأعتقد أن معظم دول العالم تطلق علي وزارات الثقافة عندها هذا الاسم, عند هذه اللحظة سيكون مهمة هذه الوزارة الجديدة البحث عن أساس معنوي للإنسان المصري عندما يواجهه السؤال: من نحن؟ وإلي أين نسير؟ المزيد من مقالات يوسف القعيد