التعليم تعلن شروط التقدم والفئات المسموح لها أداء امتحانات الطلاب المصريين بالخارج    جوتيريش يدعو للانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة    جيش الاحتلال الإسرائيلي يشن غارات على بلدتين جنوبي لبنان    علاء نبيل: نعمل على تسهيل احتراف الهواة    رابط التقديم لامتحانات الطلاب المصريين بالخارج    عاجل- توقف حركة الملاحة والصيد بميناء البرلس بسبب سوء الأحوال الجوية وتحذيرات للمواطنين    حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 13 نوفمبر 2025    رئيس الوزراء يقرر تجديد ندب القاضى حازم عبدالشافى للعمل رئيسًا لمكتب شئون أمن الدولة لمدة عام    الجيش الروسي يسيطر على ثلاث بلدات في زابوريجيا وأوكرانيا تخوض معارك طاحنة لصد الهجوم    مدبولي: مشروع توسعة شارع النقل والهندسة بمحور المحمودية من أعمال المنفعة العامة    بورشه تمنح سائقي سياراتها فرصة الاستمتاع بإحداث الكثير من الضوضاء تلقائيا داخل الأنفاق    تويوتا تضيف فئة كهربائية إلى عائلة الشاحنة الخفيفة هيلوكس    استمرار امتحانات منتصف الفصل الدراسي الأول بهندسة جنوب الوادي الأهلية    حالة الطقس المتوقعه اليوم الخميس 13نوفمبر 2025....تعرف على درجات الحرارة فى المنيا وجميع المحافظات    من عثرات الملاخ وتمرد عادل إمام إلى عالمية حسين فهمي، قصة مهرجان القاهرة السينمائي    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 13نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا    المؤتمر العالمى للسكان.. «الصحة» تنظم ورشة عمل لرفع القدرات المهنية في علاج الحروق    إنهاء أطول إغلاق حكومى بتاريخ أمريكا بتوقيع ترامب على قانون تمويل الحكومة    أديل تخوض أولى تجاربها التمثيلية في "Cry to Heaven" للمخرج الشهير توم فورد    الإسكان: طرح 25 ألف وحدة عبر منصة مصر العقارية بتقسيط حتى 7 سنوات وسداد إلكتروني كامل    ثبات نسبي لسعر صرف العملات أمام الجنيه المصري بأسوان — الخميس 13 نوفمبر 2025    احذر طقس الخميس.. الأرصاد تحذر من تقلبات جوية وأمطار رعدية    الصحة: خلو مصر من التراخوما إنجاز عالمي جديد.. ورؤية الدولة هي الاستثمار في الإنسان    صدام وشيك بين الأهلي واتحاد الكرة بسبب عقوبات مباراة السوبر    10 صيغ لطلب الرزق وصلاح الأحوال| فيديو    عوض تاج الدين: الاستثمار في الرعاية الصحية أساسي لتطوير الإنسان والاقتصاد المصري    مصمم أزياء حفل افتتاح المتحف المصري الكبير: صُنعت في مصر من الألف للياء    تراجع جديد.. أسعار الفراخ والبيض في أسواق الشرقية الخميس 13-11-2025    صاحب السيارة تنازل.. سعد الصغير يعلن انتهاء أزمة حادث إسماعيل الليثي (فيديو)    استخراج الشهادات بالمحافظات.. تسهيلات «التجنيد والتعبئة» تربط أصحاب الهمم بالوطن    فائدة تصل ل 21.25%.. تفاصيل أعلى شهادات البنك الأهلي المصري    الولايات المتحدة تُنهي سك عملة "السنت" رسميًا بعد أكثر من قرنين من التداول    بعد 43 يوما عجافا، الكونجرس الأمريكي يقر مشروع قانون لإنهاء الإغلاق الحكومي    قانون يكرّس الدولة البوليسية .."الإجراءات الجنائية": تقنين القمع باسم العدالة وبدائل شكلية للحبس الاحتياطي    حبس المتهمين بسرقة معدات تصوير من شركة في عابدين    نجم الزمالك السابق: «لو مكان مرتجي هقول ل زيزو عيب».. وأيمن عبدالعزيز يرد: «ميقدرش يعمل كده»    احسب إجازاتك.. تعرف على موعد العطلات الدينية والرسمية في 2026    حبس المتهم بقتل زوجته فى المنوفية بسبب خلافات زوجية    غضب واسع بعد إعلان فرقة إسرائيلية إقامة حفلات لأم كلثوم.. والأسرة تتحرك قانونيا    إعلام: زيلينسكي وأجهزة مكافحة الفساد الأوكرانية على شفا الحرب    القيادة المركزية الأمريكية: نفذنا 22 عملية أمنية ضد "داعش" طوال الشهر الماضي    المستشار بنداري: أشكر وسائل الإعلام على صدق تغطية انتخابات نواب 2025    أبو ريدة: سنخوض مباريات قوية في مارس استعدادا لكأس العالم    بتروجت: اتفاق ثلاثي مع الزمالك وحمدان لانتقاله في يناير ولكن.. وحقيقة عرض الأهلي    فيفي عبده تبارك ل مي عز الدين زواجها.. والأخيرة ترد: «الله يبارك فيكي يا ماما»    الإنتاج الحربي يلتقي أسوان في الجولة ال 12 بدوري المحترفين    بدء نوة المكنسة بالإسكندرية.. أمطار متوسطة ورعدية تضرب عدة مناطق    الاحتلال الإسرائيلي يشن سلسلة اقتحامات وعمليات نسف في الضفة الغربية وقطاع غزة    فرصة مميزة للمعلمين 2025.. التقديم الآن علي اعتماد المراكز التدريبية لدى الأكاديمية المهنية    قفزة في سعر الذهب اليوم.. وعيار 21 الآن في السودان ببداية تعاملات الخميس 13 نوفمبر 2025    محمود فوزي ل"من مصر": قانون الإجراءات الجنائية زوّد بدائل الحبس الاحتياطي    «يتميز بالانضباط التكتيكي».. نجم الأهلي السابق يتغنى ب طاهر محمد طاهر    خبير لوائح: قرارات لجنة الانضباط «تهريج».. ولا يوجد نص يعاقب زيزو    قد يؤدي إلى العمى.. أعراض وأسباب التراكوما بعد القضاء على المرض في مصر    مقرمش جدا من بره.. أفضل طريقة لقلي السمك بدون نقطة زيت    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس الإدارة المركزية لمنطقة شمال سيناء يتفقد مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم بالعريش    انطلاق اختبارات «مدرسة التلاوة المصرية» بالأزهر لاكتشاف جيل جديد من قراء القرآن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رقة الحرف تلين الحجر
الجدران تؤرخ لخطوط أصابها عقوقنا البصري بالغربة !
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 06 - 2015

الحجر الأصم ! كلمتان ترتبطان عادة في مصطلح واحد يجمع الصفة بالموصوف كأمر واقع . لكن الخط العربي جعل الحجر يستمع لأنامل الفنانين ويستجيب لأوامرها متحولا إلي كائن ناطق . يضفي علي العمارة الضخمة رقة تمنحها طبيعة أخري . إنه الجمال الناتج عن الجمع بين متناقضات صلادة الحجر وضخامة البناء ونعومة الحرف ! وقد أسفرت هذه المعادلة عن خدمات متبادلة ، فمثلما أعار الخط للعمارة رقته ، ساهمت المنشآت الضخمة في ازدهاره فنيا ، وكان العامل المشترك هو آيات القرآن الكريم وأبيات القصائد الدينية التي تألقت علي الجدران . وحتي اليوم لا تزال تجذب أنظار الزائرين ، ولكل منهم هدف ، فهناك من يرغب في إمتاع بصره بتحف فنية حقيقية ، بينما يركز آخرون في محاولة قراءة نصوصها التي تتداخل فيها الحروف . وبين المتعة واللعبة يظل الخط العربي هو البطل .
في مرحلة أولي من حياتي زرت مسجد محمد علي بالقلعة ، تباريت مع زملائي في قراءة النصوص التي بدت لنا كطلاسم شفرة غامضة ، تعبر عن عالم سحري قادم من أعماق الماضي . وبعدها بسنوات زرت الجامع أكثر من مرة ، كنت أكثر دراية وخبرة ، لهذا أدركت سبب عجز طفولتنا عن الاستيعاب ، فالمسجد معرض متكامل يجمع النصوص الفارسية والتركية مع العربية ، أعيد قراءة نص التأسيس الذي يرجح أن كاتبه هو عبد الغفار بيضا خاوري : " جامع بر وحسان ذات محاسن عنوان .. صرف ايدر خيره نقود همي آن بان .. مقتداي عظما راتبه بحسن علما " ، النص طويل لكن ترجمة السطور التركية السابقة هي : " اتخذ من البر والإحسان عنوانا له .. يصرف النقود في أمور الخير كل لحظة .. يقتدي بالعظماء وحسن معشر العلماء " .
يتميز المسجد بكتابات عدد هائل من الخطاطين ، فقد ترك كل منهم بصمة واضحة تظهر مدي تمكنه في فنه ، وتحيط به من ثلاث جهات نصوص كتابية بالخط الفارسي عن قصيدة نظمها الشيخ محمد شهاب الدين ، مطلعها : " ألا وهو قطب الوقت غيث زمانه ... منار الهدي المقصود في كل مقصد معاليه جلت عن نظير وأصبحت ... تباهي جميع العالمين بمفرد "، وقد وقع الخطاط الذي كتبها :" راقمه بنده حقير وفائي حسن 1267" .
كما كتب ميرزا سنجلاخ الخراساني عددا من كتابات المسجد أهمها تلك الموجودة علي قبة الوضوء بالصحن ، وهي مقامة علي ثمانية أعمدة تحمل عقودا تكون منشورا ثماني الأضلاع فوق رفرف به زخارف بارزة ، ومحلاة بنقوش تمثل مناظر طبيعية . وبداخل القبة قبة أخري رخامية ثمانية الأضلاع ، تحمل بالعرض بحورا كتابية مستطيلة مقسمة إلي ثلاث مساحات أفقية ، الوسطي هي الرئيسية وتتضمن آية قرآنية وحديثا نبويا ، أما باقي المساحات فتضم أبيات شعرية باللغة الفارسية .
خطوط المعز
في شارع المعز يقف سبيل محمد علي صامدا ، وسط عدد من المجموعات المملوكية الضخمة يستطيع أن يجذب الأنظار رغم حجمه الضئيل مقارنة بها ، تصعد عين المار تدريجيا لتمر علي نقوش جدرانه ونوافذه ، ثم تستقر علي اللوحات الخطية التي تبدو أقرب للناظر من تلك الموجودة علي جدران المساجد . القرب يخلق حالة من الحميمية رغم اللغة غير المفهومة ، فالنصوص مكتوبة بالتركية ، ومما ورد فيها : " سوره كوثر له استقبال ايدوب دلتشنه بي .. جاغيلوب زور قلدي دير له كل ايج آب حيات .. منبع فيض عطايا ايده حق در كاهني .. زمزم احساننه مستغرق أو لسون كائنات .. ساميا عطشانه تسبيل ايلرم تاريخ ايله .. كل كوزم عين علي باشا دن آل ماء الحياة " . كتب الخطاط أسعد سمرقندي كتابات السبيل ، وتعني السطور السابقة :" مياه نهر الكوثر كانت تواجه العطش قائلة ..تعالي اشرب مياه الحياة .. التي صنعها الله من فيض عطائه .. ومنحها للكائنات لتغمرها هذه النعم .. أنا سامي أسبل هذا الماء للعطشي مؤرخا : .. تعالي يا عزيزي خذ مياه الحياة من نبع علي باشا " .
علي مقربة من السبيل يرتفع بنيان مسجد وسبيل سليمان أغا السلحدار ، وقد بناه صاحبه علي الطراز العثماني ، وواجهته المطلة علي شارع المعز تشمل واجهات المسجد والمدرسة والسبيل ، وعلي واجهة السبيل خمسة مستطيلات يحتوي كل منها نص من سطرين باللغة التركية ، ومن بينها : " لذة للشاربين خمر عسلدان مستعار .. اب احيادر دماغ مصره بو كوثر رحيل .. جنت الفردوسة دونوروبش بوجاي دلكشي .. نحنها الأنهار فيلمش منزلن مجراي النيل " . وترجمتها : " لذة للشاربين أحلي من العسل .. هذا السبيل الكوثر الجليل ماء الحياة للمصريين .. حول هذا المكان إلي جنة الفردوس .. وجعل نهر النيل بمثابة الجنة التي تجري من تحتها الأنهار ".
في درب الجماميز يقع مسجد بشتاك الذي أنشأه الأمير بشتاك الناصري ، وأمرت والدة الأمير مصطفي فاضل بتجديده ، حسبما يتضح من نص يعلو المدخل كتبه حسين نديم الشيرازي ، بالخط الفارسي لكنه باللغة العربية ، وجاء فيه : " بنت مسجدا شكرا ويا حبذا الشكر .. علي نعم جلت وليس لها حصر .. وجادت ببذل المال حبا لربها .. كريمة كف وصفها الجود والبشر ". وتتعدد كتابات نديم في الجدار الشمالي الشرقي ، والجنوبي الغربي ، وأعلي المحراب .
وحدة النص
ربما تبدو بعض الأماكن السابقة مجرد أسماء لدي الكثيرين ، يعرفونها بحكم شهرتها دون أن يعلموا كيفية الوصول إليها ، وحتي من يصلون إليها قد ينشغلون بعمارتها ، بينما تظل الخطوط مجرد طقس شكلي يكملون به علامات انبهارهم بما يرونه ، لكن في المقابل توجد أماكن أخري أكثر ارتباطا بالوجدان الشعبي ، يزورها الآلاف يوميا لأداء الصلاة بحكم وجودها بالقرب منهم ، تطل عليهم الكتابات من أعلي وهي تشعر بالوحدة ، وتشتاق لعيون تتطلع بها وتخفف من غربتها ، لكن الزائرين يدخلون لأداء الفرض الديني دون أن ينتبهوا إلي أن هناك بالأعلي حروفا تتشابك في تكوينات جمالية رائعة ، وربما لا يذكر بعضهم آخر مرة تطلع لها ، وكم من الوقت انجذبت عيناه لما يراه وانشغل به ، هكذا يمضي الحال عادة في مساجد : الرفاعي ، الشافعي ، الحسين ، السيدة زينب ، السيدة نفيسة ، المؤيد شيخ ، والعشرات غيرها . إنه الاعتياد الذي يفقد الإحساس طزاجته !
في عام 1176 أنشأ صلاح الدين الأيوبي مدرسة بجوار قبة الشافعي ، عرفت بالمدرسة الصلاحية ، ويعتبر الضريح الموجود بها أقدم الأبنية الدينية التي خلفها سلاطين بني أيوب ، ويضم رفات الشافعي والأميرة شمسة زوجة صلاح الدين ، ورفات والدة الملك الكامل . وعندما تهدمت المدرسة أنشأ الأمير عبد الرحمن كتخدا مسجدا مكانها ، وحين تصدع أمر الخديو توفيق بتجديد الضريح و المسجد و توسعته ، وتم ذلك عام 1892 علي طراز مساجد تلك الحقبة . وقد كتب الخطاط محمد أمين الزهدي نص إنشائه ، وكتابات أخري فوق المحراب . حيث ورد في نص الإنشاء :" قد أمر بإنشاء هذا المسجد الأنيق للشافعي ذي العلم العميق خديو مصر الأفخم محمد توفيق " . أما كتابات المحراب فوردت فيها الآية الكريمة : " وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة واركعوا مع الراكعين ".
وفي مسجد السيدة نفيسة توجد تركيبات أخري بديعة من الحروف ، تبدأ من مدخله كالعادة ، وتمتد بكل أرجائه ، تغلب الآيات القرآنية علي الكتابات العربية ، غير أن مدخل الضريح يعلوه بيت من الشعر : " يا من أتي متوسلا بنفيسة .. ابشر بنيل القصد و الإسعاد " .
وسط الميدان الصاخب يقف مسجد السيدة زينب شامخا ، زحام المارة والسيارات كفيل بأن تنشغل العيون بما يحيط بها ، لتقي أصحابها من أخطار محتملة ، وحين يحل الخطر يتراجع الإحساس بالجمال ، وتصبح خطوط الفنان محمد جعفر البديعة وحيدة رغم الزحام المحيط ، تعلو باب المسجد في صمت لا تستطيع الضوضاء أن تقطعه .
لا يختلف الحال في بقية المساجد والأبنية ، فجدرانها شواهد راسخة تحمل ملايين الأحرف التي تشكل معا لوحات خطية جذابة ، قد تشعر بالوحدة أحيانا ، لكن عقوقنا البصري لها لا يفقدها حيويتها ، تلك الحيوية التي تتبدي لنا كلما قررنا فجأة أن نتذكرها .
الحجر الأصم ! كلمتان ترتبطان عادة في مصطلح واحد يجمع الصفة بالموصوف كأمر واقع . لكن الخط العربي جعل الحجر يستمع لأنامل الفنانين ويستجيب لأوامرها متحولا إلي كائن ناطق . يضفي علي العمارة الضخمة رقة تمنحها طبيعة أخري . إنه الجمال الناتج عن الجمع بين متناقضات صلادة الحجر وضخامة البناء ونعومة الحرف ! وقد أسفرت هذه المعادلة عن خدمات متبادلة ، فمثلما أعار الخط للعمارة رقته ، ساهمت المنشآت الضخمة في ازدهاره فنيا ، وكان العامل المشترك هو آيات القرآن الكريم وأبيات القصائد الدينية التي تألقت علي الجدران . وحتي اليوم لا تزال تجذب أنظار الزائرين ، ولكل منهم هدف ، فهناك من يرغب في إمتاع بصره بتحف فنية حقيقية ، بينما يركز آخرون في محاولة قراءة نصوصها التي تتداخل فيها الحروف . وبين المتعة واللعبة يظل الخط العربي هو البطل .
في مرحلة أولي من حياتي زرت مسجد محمد علي بالقلعة ، تباريت مع زملائي في قراءة النصوص التي بدت لنا كطلاسم شفرة غامضة ، تعبر عن عالم سحري قادم من أعماق الماضي . وبعدها بسنوات زرت الجامع أكثر من مرة ، كنت أكثر دراية وخبرة ، لهذا أدركت سبب عجز طفولتنا عن الاستيعاب ، فالمسجد معرض متكامل يجمع النصوص الفارسية والتركية مع العربية ، أعيد قراءة نص التأسيس الذي يرجح أن كاتبه هو عبد الغفار بيضا خاوري : " جامع بر وحسان ذات محاسن عنوان .. صرف ايدر خيره نقود همي آن بان .. مقتداي عظما راتبه بحسن علما " ، النص طويل لكن ترجمة السطور التركية السابقة هي : " اتخذ من البر والإحسان عنوانا له .. يصرف النقود في أمور الخير كل لحظة .. يقتدي بالعظماء وحسن معشر العلماء " .
يتميز المسجد بكتابات عدد هائل من الخطاطين ، فقد ترك كل منهم بصمة واضحة تظهر مدي تمكنه في فنه ، وتحيط به من ثلاث جهات نصوص كتابية بالخط الفارسي عن قصيدة نظمها الشيخ محمد شهاب الدين ، مطلعها : " ألا وهو قطب الوقت غيث زمانه ... منار الهدي المقصود في كل مقصد معاليه جلت عن نظير وأصبحت ... تباهي جميع العالمين بمفرد "، وقد وقع الخطاط الذي كتبها :" راقمه بنده حقير وفائي حسن 1267" .
كما كتب ميرزا سنجلاخ الخراساني عددا من كتابات المسجد أهمها تلك الموجودة علي قبة الوضوء بالصحن ، وهي مقامة علي ثمانية أعمدة تحمل عقودا تكون منشورا ثماني الأضلاع فوق رفرف به زخارف بارزة ، ومحلاة بنقوش تمثل مناظر طبيعية . وبداخل القبة قبة أخري رخامية ثمانية الأضلاع ، تحمل بالعرض بحورا كتابية مستطيلة مقسمة إلي ثلاث مساحات أفقية ، الوسطي هي الرئيسية وتتضمن آية قرآنية وحديثا نبويا ، أما باقي المساحات فتضم أبيات شعرية باللغة الفارسية .
خطوط المعز
في شارع المعز يقف سبيل محمد علي صامدا ، وسط عدد من المجموعات المملوكية الضخمة يستطيع أن يجذب الأنظار رغم حجمه الضئيل مقارنة بها ، تصعد عين المار تدريجيا لتمر علي نقوش جدرانه ونوافذه ، ثم تستقر علي اللوحات الخطية التي تبدو أقرب للناظر من تلك الموجودة علي جدران المساجد . القرب يخلق حالة من الحميمية رغم اللغة غير المفهومة ، فالنصوص مكتوبة بالتركية ، ومما ورد فيها : " سوره كوثر له استقبال ايدوب دلتشنه بي .. جاغيلوب زور قلدي دير له كل ايج آب حيات .. منبع فيض عطايا ايده حق در كاهني .. زمزم احساننه مستغرق أو لسون كائنات .. ساميا عطشانه تسبيل ايلرم تاريخ ايله .. كل كوزم عين علي باشا دن آل ماء الحياة " . كتب الخطاط أسعد سمرقندي كتابات السبيل ، وتعني السطور السابقة :" مياه نهر الكوثر كانت تواجه العطش قائلة ..تعالي اشرب مياه الحياة .. التي صنعها الله من فيض عطائه .. ومنحها للكائنات لتغمرها هذه النعم .. أنا سامي أسبل هذا الماء للعطشي مؤرخا : .. تعالي يا عزيزي خذ مياه الحياة من نبع علي باشا " .
علي مقربة من السبيل يرتفع بنيان مسجد وسبيل سليمان أغا السلحدار ، وقد بناه صاحبه علي الطراز العثماني ، وواجهته المطلة علي شارع المعز تشمل واجهات المسجد والمدرسة والسبيل ، وعلي واجهة السبيل خمسة مستطيلات يحتوي كل منها نص من سطرين باللغة التركية ، ومن بينها : " لذة للشاربين خمر عسلدان مستعار .. اب احيادر دماغ مصره بو كوثر رحيل .. جنت الفردوسة دونوروبش بوجاي دلكشي .. نحنها الأنهار فيلمش منزلن مجراي النيل " . وترجمتها : " لذة للشاربين أحلي من العسل .. هذا السبيل الكوثر الجليل ماء الحياة للمصريين .. حول هذا المكان إلي جنة الفردوس .. وجعل نهر النيل بمثابة الجنة التي تجري من تحتها الأنهار ".
في درب الجماميز يقع مسجد بشتاك الذي أنشأه الأمير بشتاك الناصري ، وأمرت والدة الأمير مصطفي فاضل بتجديده ، حسبما يتضح من نص يعلو المدخل كتبه حسين نديم الشيرازي ، بالخط الفارسي لكنه باللغة العربية ، وجاء فيه : " بنت مسجدا شكرا ويا حبذا الشكر .. علي نعم جلت وليس لها حصر .. وجادت ببذل المال حبا لربها .. كريمة كف وصفها الجود والبشر ". وتتعدد كتابات نديم في الجدار الشمالي الشرقي ، والجنوبي الغربي ، وأعلي المحراب .
وحدة النص
ربما تبدو بعض الأماكن السابقة مجرد أسماء لدي الكثيرين ، يعرفونها بحكم شهرتها دون أن يعلموا كيفية الوصول إليها ، وحتي من يصلون إليها قد ينشغلون بعمارتها ، بينما تظل الخطوط مجرد طقس شكلي يكملون به علامات انبهارهم بما يرونه ، لكن في المقابل توجد أماكن أخري أكثر ارتباطا بالوجدان الشعبي ، يزورها الآلاف يوميا لأداء الصلاة بحكم وجودها بالقرب منهم ، تطل عليهم الكتابات من أعلي وهي تشعر بالوحدة ، وتشتاق لعيون تتطلع بها وتخفف من غربتها ، لكن الزائرين يدخلون لأداء الفرض الديني دون أن ينتبهوا إلي أن هناك بالأعلي حروفا تتشابك في تكوينات جمالية رائعة ، وربما لا يذكر بعضهم آخر مرة تطلع لها ، وكم من الوقت انجذبت عيناه لما يراه وانشغل به ، هكذا يمضي الحال عادة في مساجد : الرفاعي ، الشافعي ، الحسين ، السيدة زينب ، السيدة نفيسة ، المؤيد شيخ ، والعشرات غيرها . إنه الاعتياد الذي يفقد الإحساس طزاجته !
في عام 1176 أنشأ صلاح الدين الأيوبي مدرسة بجوار قبة الشافعي ، عرفت بالمدرسة الصلاحية ، ويعتبر الضريح الموجود بها أقدم الأبنية الدينية التي خلفها سلاطين بني أيوب ، ويضم رفات الشافعي والأميرة شمسة زوجة صلاح الدين ، ورفات والدة الملك الكامل . وعندما تهدمت المدرسة أنشأ الأمير عبد الرحمن كتخدا مسجدا مكانها ، وحين تصدع أمر الخديو توفيق بتجديد الضريح و المسجد و توسعته ، وتم ذلك عام 1892 علي طراز مساجد تلك الحقبة . وقد كتب الخطاط محمد أمين الزهدي نص إنشائه ، وكتابات أخري فوق المحراب . حيث ورد في نص الإنشاء :" قد أمر بإنشاء هذا المسجد الأنيق للشافعي ذي العلم العميق خديو مصر الأفخم محمد توفيق " . أما كتابات المحراب فوردت فيها الآية الكريمة : " وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة واركعوا مع الراكعين ".
وفي مسجد السيدة نفيسة توجد تركيبات أخري بديعة من الحروف ، تبدأ من مدخله كالعادة ، وتمتد بكل أرجائه ، تغلب الآيات القرآنية علي الكتابات العربية ، غير أن مدخل الضريح يعلوه بيت من الشعر : " يا من أتي متوسلا بنفيسة .. ابشر بنيل القصد و الإسعاد " .
وسط الميدان الصاخب يقف مسجد السيدة زينب شامخا ، زحام المارة والسيارات كفيل بأن تنشغل العيون بما يحيط بها ، لتقي أصحابها من أخطار محتملة ، وحين يحل الخطر يتراجع الإحساس بالجمال ، وتصبح خطوط الفنان محمد جعفر البديعة وحيدة رغم الزحام المحيط ، تعلو باب المسجد في صمت لا تستطيع الضوضاء أن تقطعه .
لا يختلف الحال في بقية المساجد والأبنية ، فجدرانها شواهد راسخة تحمل ملايين الأحرف التي تشكل معا لوحات خطية جذابة ، قد تشعر بالوحدة أحيانا ، لكن عقوقنا البصري لها لا يفقدها حيويتها ، تلك الحيوية التي تتبدي لنا كلما قررنا فجأة أن نتذكرها .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.