تطالع الغلاف، فتجد العنوان كبيرا واضحا "كرسي معسّل" فتتهيأ لقراءة مجموعة قصصية حريفة المذاق تدور في عالم شديد الواقعية، لكن الغلاف يحمل أيضا صورة لدرويش هائم في الملكوت، تأخذك الي عالم آخر، تعبر عنه مقولة مولانا جلال الدين الرومي المدونة بخط مرسوم علي الغلاف "كلما اقتربت أكثر.. أدركت كم أنت بعيد". تتأرجح توقعاتك بين العالمين، عالم العنوان "كرسي معسل" وعالم الصورة "الدرويش الهائم". يقابلك الاهداء، وإهداء الكتاب يضعك مباشرة أمام الانسان في الكاتب، وكاتبنا "إسلام قطب" يهدي مجموعته القصصية، الصادرة عن دار صفصافة، لكل البشر، من يحبونه ومن يحلم أن يحبوه، وأيضا لمن يدفعونه للتعبير عن ذاته بتحديهم له وسخريتهم منه، يهدي كتابه بكلمات وروح صافية، فيقدم هذا الإهداء أول مفاتيح قراءتنا للكاتب وكتابه. ثم تبدأ الدوزنة التي وضعها الكاتب قبل قصصه، والدوزنة عند الموسيقيين هي هذا الهمس المتبادل مع الآلة وأوتارها وضبطها قبل العزف، وهي عند كاتبنا معزوفة جميلة من الكلمات والأفكار، يتأكد بها من بلاغة قلمه ومن انجلاء روحه، ويضعنا في أجواء سنعيشها في قصصه. وتتوالي القصص، تبدو أماكن الأحداث مختلفة، فقد تكون المطار أو ساحة المولد أو شاطيء البحر أو أمام سرادق للعزاء، وقد تكون في ليلة ممطرة مظلمة أو وسط ضباب لم تشهده البلاد من قبل، لكن رغم هذه الاختلافات في الأماكن والأجواء فالمسيطر هو الحوار الداخلي، حوار منبعه إرهاق الواقع للروح والرغبة في الابتعاد عن هذا الواقع والبحث عن عالم آخر. كثير من الكتاب و كثير من القراء يبحثون عن هذا العالم الآخر، وهذا فيه إغراء كبير للكاتب، فقيود التعبير عنه أضعف والانطلاق فيه منبع للسعادة الشخصية ومصدر لتعليقات الإعجاب حول التجلي والتحليق في الأعالي، لكنه في نظري كثير ما يقود إلي الاستغراق في التأمل علي حساب الحبكة القصصية وبناء الأحداث ورسم الشخصيات، بل قد يصل إلي خلو القصة من الشخصيات المتفاعلة وإلي خلوها من الأحداث، بحيث تصبح المحصلة تأملات ذاتية أكثر منها بناءً قصصيا. وأعتقد أن كاتبنا "إسلام قطب" قد استغرق أكثر مما ينبغي في تأملاته، ولو كان قد اعتني بالبناء القصصي قدر عنايته الكبيرة بالاسترسال في التأمل لكان قد أجاد أكثر مما أجاد. وقد يكون تعليل ذلك أنها المجموعة القصصية المنشورة الأولي التي كثيرا ما نجد أن الكاتب يحرص فيها علي التعبير عن ذاته بقوة، وقد يكون تعليل ذلك أيضا ما يبدو من شخصية الكاتب من رومانسية باحثة عن التسامي. أما عن اللغة فهي جزلة عميقة لكن دون تقعر ولا مبالغات، فأنت تقرأ بسلاسة وتستمتع بأسلوب جميل، وهذا جانب يحسب بشدة لإسلام قطب، فالشائع الآن هو عدم الاهتمام بجمال الكلمة والتركيب اللغوي، لكن كاتبنا يضع نفسه في موضع مختلف أكثر رسوخا لعنايته بالإجادة اللغوية، التي هي في الحقيقة أداة العزف للكاتب. إذا كان الكاتب قد اختار "كرسي معسّل" عنوانا لمجموعته القصصية، فهل يسمح لي أن اختار اسمه عنوانا لها، فهي "إسلام" بالحس الأخلاقي الديني فيها، وهي "قطب" بالبعد الصوفي المسيطر علي أجوائها. وعندما تصل للغلاف الخلفي للكتاب، ستقرأ ما انتقاه المؤلف، وكأنه يرد علي ما أثرت في هذا المقال، وكأنه يرد علي رأيي فيما أثار اعجابي وفيما أثار انتقادي، كأنه يقول: أنا أكتب هكذا عمدا، هذا قصدي وهذه طريقتي. و أنا كقاريء أقول له: و أنا أحترم اختياراتك. يقول "إسلام قطب" عن "كرسي معسل": كرسي المعسل هو كرسي الحياة، مقام الدنيا وجانبها الواقعي الذي ينسينا أن في الدنيا أكوانا موازية في بعد زمني يساوينا في التوقيت فقط ولكنه يبعد عن عقولنا ملايين السنين الضوئية.. يعيش تلك الأكوان المهمشون والمجاذيب والمحبون والكادحون علي لقمة عيش أطهر أو أحلي.. العابدون والملحدون والمترنحون علي بوابة العدم المحتضرون والسكاري والمدمنون والمعذبون والراضخون الراضون بما قسم الله لهم حد الاستكانة والذل.. كل هؤلاء يدورون كما تدور الأرض تحت أقدامهم في فلك صوفي بغية الترقي الي الأعلي.. إلي الحد الأقرب من النشوة متدرجين من نشوة دخان كرسي المعسل مرورا بالانجذاب والسكر والتيه إلي العدم حيث ملاقاة الذات الالهية والانتشاء المخلد في الجنان.. يرون أنهم خلقوا للدوران ويرون في الدوران عبادة ويرون في العبادة قربا ويرون القرب وسيلة لغاية الرضا والرضا غاية لا تدرك بل حلم نسابقه في حلقة دائرية.. كلما كثر الدوران انقشع الضباب وزادت رؤيا البصر والبصيرة.. وكلما سرع الدوران زاد السكر والانتشاء.. وكلما اقتربت أكثر.. أدركت كم أنت بعيد.. عن ساكني هذه الأكوان الموازية نتحدث"..