بين يدي الآن رواية "موسم صيد الزنجور" في طبعتها الثانية الصادرة عن دار العين للكاتب المغربي "إسماعيل غزالي". في الحقيقة هي ليست مجرد رواية، هي عالم بأكمله يتشكل بين أصبعي الكاتب كرب، يقلبه كيف يشاء ليجعلك تفكر ماذا لو كانت أحداث الرواية وعالمها وشخوصها هي كون مواز؟ يتهندس عبر نزهة خرافية إلي بحيرة غرائبية، ويجعلنا نعيد السؤال الوجودي الأزلي الملح الذي طرحته الملائكة قبيل بدء الخليقة: أتجعل فيها من يفسد فيها؟! ونسأله للروائي المبدع بلهجة غير ملائكية بالمرة،عن تلك الأحجار التي قذفها في بحيرة "أكلمام أزكزا" فحركت ساكنا، وخلقت دوامات إنشطارية من الحكايات تبدو عبثية، غير أن ثمة وعيا مسبقا يقف خلف ابتكار دوّامة الإنشطارات الحكائية تلك التي تخلقت منها جزيرة الرواية منتصبة في بحيرته/أرضه ليجعل فيها من يفسد فيها .. بالفعل أفسد إسماعيل غزالي كل البنيات السردية الكلاسيكية، حين قدم شخوصه الخلاسية عبر فضاء بحيرته الغرائبية العجائبية التي تحاصرها جبال الأطلس، فتبدو البحيرة مسرنمة بين أخشبين بينما تمور بأبطال روايتها الوحشية، مثل سمك الزنجور الذي يسكن قلب البحيرة عمدا وقلب بطلها عازف الساكسفون الفرنسي الأب والمغربي الأم الذي جاء بدعوة من صديقة مغربية، الذي ظل طوال حياته مسكونا بغياب حقيقة أمه الأمازيغية، التي لم يتعرف عليها إلا من خلال معلومات لا تسمن ولا تغني من جوع، تصدر عن والده الذي تبقي يؤجل رغبة ابنه في رحلة التعرف علي أسرة أمه بالمغرب إلي أن مات دون تحقق ذلك. من لحظة وصوله تبدأ أحداث غرائبية متتالية حتي نهاية الرواية، فحين يحدق في عيني الكلب المبقع يري بيته في فرنسا وجاره يقتل زوجته، وحين يؤلف مقطوعاته يري في عين الكلب جاره أيضاً يعزفها علي البيانو الذي يخصه، وحين يبدأ في العزف علي الساكسفون يأخذ سمك الزنجور في الرقص فوق سطح البحيرة، كما يلاحظ ظهور غراب من شق الجبل ليرسم ثلاث دوائر فوق سطح البحيرة، ثم يختفي ليعاود الظهور مرة أخري ليؤدي نفس الحركات، وعندما تغطي سطح البحيرة أسراب السنونو، فهذا يعني نذير شؤم يحدث لأحد ما من أفراد المخيمين، وعندما تغني الأمازيغية التي هي أمه تتجمد البحيرة عند غنائها، وهكذا كل الأحداث تحمل سحريتها التي لا تفسير لها، فقط ظواهر عجيبة علي القارئ أن يتقبلها كفنتازيا مبالغ فيها. في نسق تجريبي حتي يتموقع النص داخل التحوّل والمآل. التجريب كما في رأي المؤلف لا يُبوْصِل الكتابة، بل هو قلق جمالي، هاجس فني ووعي بنسق إستيطيقي علي أهبة التشكل، أي غواية لابتكار الشيء الغريب، التجريب ليس غاية أبدا، بل وسيلة أو أداة من ضمن أدوات أخري للذهاب بالكتابة إلي حدود قصوي غير مرسومة سلفا، وهو لذلك له علاقة وثيقة بطموح الكتابة، برؤية هاجسها وعي المجاوزة أو صنع اللحظة الجمالية المتوحشة . كأنه لحظة الكتابة لا يفكر في شيء يقع خارجها. كل شيء ملغي لحظة الكتابة، لا احتكام إلا لقسوة و جنون ومتعة ما يكتب. كما يريد له أن يكتب جنونا وقسوة ومتعة لا غير. ومع أن مقصد عازف الساكسفون الفرنسي بطل الرواية من وراء هذا السفر كانت كشف حقيقة أمه المغربية- كما يبحث هوزيه ميندوزا الفلبيني بطل رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي عن أبيه الكويتي كبطل خلاسي أيضا بالإضافة إلي أن بطل غزالي كان يهفو للتلذذ بعالم العزلة في بحيرة مسحورة ومعزولة عن العالم من أجل إنجاز مؤلف موسيقي جديدتفإنه بدخوله هذا العالم الغرائبي بجماله وعزلته ووقائعه المخيفة يجد نفسه مقحما في سلسلة مفاجئة من الأحداث والعلاقات المتشابكة، كأن قدرا غريبا أخذه إلي هناك ليلتقي أناسا بمحض الصدفة، يشترك معهم المعاناة والمصير والهلاوس وجنون الإفتتان بالمكان. ومن هؤلاء الشخوص التي قابلها في البحيرة "فيرجينيا" اللندنية بدورها لاذت بالبحيرة ناشدة التفرغ لكتابة سيناريو حول جدتها الخليجية التي قاومت الاستعمار البريطاني بضراوة فارسة عربية، مشهود لها بمهارة ركوب الخيل واستعمال السلاح. فيرجينيا كانت بدورها ثمرة خلاسية لزواج فوتوغرافي إنجليزي بامرأة من دبي: ليست سوي بنت الفارسة العربية. يبدو أن أزمة البحث عن الجذور والهوية تسيطر علي كتاب هذا الجيل بعكس الصورة المنمطة عن هذا الجيل كونه" اللامنتمي" حيث تنشغل كل الشخصيات -التي حلت بالبحيرة- بهوس التنقيب عن أشياء لها وقع خاص في مخيلتها، تجعلها تنتمي إلي المكان ولو جولوجيا فإذا كان البطل جاء هنا للبحث عن هوية انتسابه لأم يجهل أصلها ومكانها وقصتها فإن الشخصيات الأخري قادتها مصائر مختلفة بحثا عن أوهام سرابية،فإن فيرجينيا بالإضافة إلي مشروع السيناريو، تضمر سببا آخر لزيارة البحيرة الأطلسية هو البحث عن لؤلؤة سوداء مدفونة في قعره. أول لؤلؤة يصيدها جدها في ساحل دبي قبل أن ينتزعها منه جنرال إنجليزي أهداها إلي زوجته التي أوصت بدفن اللؤلؤة السوداء مع رماد جثتها في قعر بحيرة »أكلمام أزكزا«. موسم صيد الزنجور رواية خرافية جغرافية تؤطلس العالم، تستلهم طقوس العيش في جبال الأطلس المغربي كمادة أساسية تدور بشأنها الوقائع الغامضة في بحيرة أسطورية يلتبس فيها الواقع بالخيال، ويتداخل فيها الجمال بالقبح، وتحتدم فيها صراعات الأهواء والرغبات والمآسي تجتمع فيها -بمحض الصدفة- كائنات بشرية من كل الجنسيات، بحثًا عن أشياء أو أفكار أو مشاريع مستحيلة، سرعان ما تؤوب إلي غيرها بفعل الأقدار الغريبة التي تجلل المكان، ويكون من سوء المصادفات أن تتقاطع أحلام الشخصيات ومطامحها ومخاوفها، بل وتتشابه مصائرها أيضًا، وكأن لعنة قدرية استبدت بهذه البحيرة مما يجعلنا نتذكر علي الفور روايات أدب البحيرة إذا صح التعبير مثل (صخب البحيرة )لمحمد البساطي ورواية (البحيرة) لكاواباتا، و( كفاكا علي الشاطيء ) لموراكامي » و رواية « ( حياة باي ) ليان مارتل (البحيرة السوداء) لشارلوت لامب، (سيدة البحيرة) لريمون شاندلر، (أنشودة البحيرة) لآبرا تايلور، و(البحيرة الذهبية) لسوزان كلير. (بحيرة وراء الريح) و(نهر يستحم في البحيرة) ليحيي خلف الإ إن »أكلمام أزكزا« في رواية صيد الزنجور ليست مجرد بحيرة، بل هي في اعتقاد قاطنيها: امرآة للسماوات السبع، تستضمر ما يعتمل في الأعالي، وهي تبدو وفق ذلك مرجعا سماويا أو مستودعا أزليا لأسرار الخلق وألغاز الكون. بيد أن متخيل المكان المحدد ببحيرة أكلكام في الرواية يرتهن إلي رؤية جمالية خالصة، ولا يحتكم إلي أي هاجس إثني ضيق. حيث لا ذاكرة أحادية ترتكن إليها فراسخ الرواية، بل ثمة نسيج متعدد تتخلق فسيفساؤه عبر اختلاف هويات أقطاب الشخوص التي ترسم اللوحة الكلّية للتجربة في المجمل والمحصّلة بحسب غزالي. وعن الأمكنة دائما، فالرواية وإن بدت معسكرة في بحيرة "أكلمام أزكزا" واقعا واختلاقا، فهي ترتحل إلي أمكنة موازية: مدينة رانس الفرنسية. الساحل والصّحراء فهي رواية جغرافية بإمتياز حيث الاحتفاء اللافت بطبيعة الأطلس المتوسط الذي تخلق له سيرة موازية لسيرة الموسيقي داخل النص وهي تدون أسماء وأشكال زخم الأشجار والنباتات التي يترف بها الأطلس المتوسط جبالا وغابات. فالشجر الداغل في الرواية محبوك من البلوط والغار والعصفر والتنوب. وهناك طبعا أرز وسنديان. وثمة نسر خرافي أيضا. جمهرة قرود. فراشات سوداء. حمار أجرب. كلب مبقع بالأبيض والأسود والأصفر. زيزان لا تتوقف عن الصرير.. زناجير مخاتلة. خنافس ذهبية. غربان تنعق في الأعالي. تشعر معها وكأنك تشاهد ناشونال جيوغرافيك أحيانا ويكفي أن تعرف أن ثلاث مجموعات قصصية من أصل أربعة أصدرها الكاتب تحمل تلك العناوين»عسل اللقالق منامات شجرة الفايكنج »الحديقة اليابانيّة« حتي تفهم ما أقول. في هذه الرّواية، جاء السّرد موثّقا للنّبات والطّبيعة، الورد والموسيقي، البشر والحيوان، الطير والسمك والحجر. بلغة شعريّة مجازيّة، وبحسّيّة مفعمة مترفة وباسترجاع من باطن الذّاكرة والمخيّلة بدفق متوتّر ومشحون متّسق مع جمال الأمكنة البدائية و تتوازي الصور المتلفزة مع الكتابة السردية مع الدفق الموسيقي وفق إيقاع هادر، فكل فصل هو بمثابة مقطع موسيقي أو لوحة سيريالية تتماهي فيها الأسطورة والواقع، وتتعانق اللغات، ونكتشف في النهاية أن (موسم صيد الزنجور)- العنوان الذي يطلقه العازف الفرنسي علي خماسيته الموسيقية المؤلفة من: دورات الغراب الثلاث، ساحل اللؤلؤة السوداء، أوديسا بجع الشمال، حكايات البحيرة السبع، ثم رقصة اللوثيان - هو نفسه عنوان الرواية التي ألفها الأبكم ذو الإشارات الغريبة، صديق خاله الذي ظل يراقبه كشبح لأسبوع من الفندق، وهو نفسه عنوان المؤلف الموسيقي الخماسي الذي سيؤلفه بتخاطر ذهني مدهش جاره العجوز الكسيح في مدينته الفرنسية »رانسب«. يكتب الغزالي روايته مُحاكيا الفن بجميع مجالاته. لا بمنطق روائي فحسب حيث يتجلي الرسم في سيريالية الفنان فلاديمير كوش علي غلافها، و تَصدح الموسيقي من احتفائها بمقطوعات العازف الساكسافوني الفريد أسوني رولينز وكيني جي، ويأتي فن الكتابة في كتابة الرواية بصيغة حلزونية تتؤسس علي لعبة الرواية داخل الرواية الذي يتوازي ويتقاطع في بنيتها المتاهية أكثر من عمل حكائي ليكوّن متاهة متشعبة، تشبه دوامات صغيرة متقاطعة علي سطح بحيرة ألقمت حجرا تلو الآخر. في النهاية موسم صيد الزنجور رواية تضاريس منحوتة بعناية فائقة تشبه ازميل نحات بارع .. نص يصطاد اللحظات الوحشية المفعمة ويكرسها لقارئ فطن. أما أنا فلست من الكتاب الذين يحترفون حرق الروايات علي القارئ لذلك لم أكن منشغلا بتقديم أحداثها قدر إنشغالي بتأسيس عالمها والتأكيد علي الوعي الجمالي داخل ذلك النص البديع "موسم صيد الزنجور" تاركا الرواية في ذمة القارئ النابه اليقظ.