لف الظلام ساحة الفكر العربي والإسلامي عندما حرقت أمهات الكتب وضاعت ثمرة جهود العلماء والفلاسفة ورجال الأدب والطب وأجبر المفكرين علي دفن كتبهم بأياديهم وأصبحوا غرباء في أوطانهم يفرون إلي وحدتهم يمضون علي درب لوعتهم بعقولهم المكابدة التي تسعي حثيثا محملة بأثقالها عبر فيافي قاحلة يبحثون عن ملا \آمن بينما العدالة تجرجر أقدمها وراءهم. إنها إرادة"الطغيان"التي تقود مسيرة الشعوب والحياة في مجملها. فهذا الخوف من الفكر والمفكرين ضارب بعيدا في الزمن. لم ينج فيلسوف أو عالم او مفكر من بطش الحكام ومفكري البلاط وتوجيه التهم بالزندقة والكفر لهم. فقد كفر ابن الجوزي الصوفية عامة فهو صاحب عبارة " زنادقة السلام ثلاثة ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء "المعري" وقال وأشدهم علي الإسلام أبو حيان لأنه يجمجم ولم يصرح" وعلي هذا الدرب صار ابن تيمية من بعد بالنسبة إلي ابن عربي والحلاج والصدر الرومي وابن سبعين. ومن أساليب هذا البطش الشائع في كل العصور والأزمنة إتلاف الكتب بالحرق، أو دفع هؤلاء الفلاسفة والمفكرين إلي دفن كتبهم أو غسلها بالماء.نورد هنا بعض الأمثلة علي ما فعله أصحاب الكتب بها: عبيده بن عمرو السلماني المراوي أبو عمر الكوفي توفي قبل 67 ه ويذكر عنه " إنه دعا بكتبه عند الموت فمحاها فقيل له في ذلك. فقال: أخشي أن يليها قوم يضعونها غير موضعها". لقد قام ابو حيان التوحيدي (310- 414ه) بحرق كتبه وغسلها بالماء في آخر عمره فهو لم ينل إلا البؤس والحرمان والفاقة، في حين من هم أقل دونوه في حرفة الأدب تنعموا بمراتب الرئاسة، وقد أحس التوحيدي أنه غريب في كل شئ ووحيد في الحياة ومقولته الشهيرة تؤكد ذلك" أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه" لذلك فهو يحرقها لقلة جدواها وهو وإن لم يأت في هذا ببدعة، فله في "إحراق هذه الكتب إسوة بأئمة يقتضي بهم ويؤخذ بهديهم" ( ياقوت معجم الأدباء).يذكر منهم أبا عمرو بن العلاء اللغوي الذي دفن كتبه في باطن الأرض فلم يوجد لها أثر، وداوود الطائي المتوفي 160ه طرح كتبه في نهر الفرات وقال يناجيها " نٍعم الدليل كُنتي، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول"، ثم يوسف بن أسباط حمل كتبه إلي غار في جبل وطرحه فيه وسد به بابه وقال " دلنا العلم في الأول ثم كان يضلنا في الثاني فهجرناه لوجه من وصلناه ، وكرهناه من أجل ما أردنا"، والصوفي الكبير أبا سلمان الداني الذي توفي 205 ه الذي جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال:" والله ما أحرقتك حتي كدت أحترق بك" وأبو عبد الله سيفيان بن سعيد بن مسروق المتوفي 161 ه الذي خاف علي كتبه فقام بدفنها واختفي عن الأنظار في البصرة حتي وافته المنية خوفا من بطش المهدي العباسي. أبو كريب الهمداني المتوفي 243 ه وهو من محدثي الكوفة وقد ورد عنه ثلاثمائة ألف حديث وأوصي قبل وفاته أن تدفن كتبه معه، فدفنت. أحمد ابن أبي الحواري الزاهد الدمشقي شيخ أهل الشام 246ه،، حمل كتبه كلها إلي البحر فغرقها وقال: يا علم لم أفعل بك هذا إستخفافا، ولكن لما اهتديت بك استغنيت عنك" 363 ه قام محمد بن عبد الله بن أبي عامر محمد بن الوليد القحطاني المعاقري الأندلسي بحرق خزاين المؤيد بالله هشام بن المستنصر الأموي، فعل ذلك تحببا إلي العوام وتقييدها لرأي المستنصر. ابن كردان النحوي توفي 424 ه غسل قبل موته خمسة عشر مجلدا في إعراب القرآن. أبو الحسين عاصم بن الحسن العاصمي الكرخي المتوفي 483 ه عندما مرض في أواخر عمره غسل ديوان شعره. سنة 574 ه تم القبض علي أبو السعادات بن قرايا الرافضة ووجد في بيته سب الصحابة فقطعت يده ولسانه ورجمته العامة وسبح في الماء فرموه بالآجر فغرق فأخرجوه واحرقوه، وتم إحراق كتبه ( المنتظم لإبن الجوزي). في عام 591 ه اتهم الخليفة المنصور ابن رشد بالمروق من الدين والإلحاد والزندقة وتم محاكمته بالجامع الأعظم بقرطبة وحكم عليه بحرق كتبه والنفي من قرطبة، وتم جمع كل الكتب الموجودة في مكتبته ونقلت إلي الساحة الكبري بأشبيليه وسط حضور حاشد، وأرغم بن رشد علي مشاهدة مئات الكتب لعشرات الفلاسفة والمفكرين العرب تحرق وسط تكبير وصراخ الغوغاء بتحريض من بعض شيوخ الدين، الفقهاء المقربين من المنصور والحاشية الذين رفضوا مقولة ابن رشد " الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل" وكذلك رفضوا منهجه الذي يؤكد علي أهمية التفكير التحليلي كشرط أساسي لتفسير القرآن الكريم. ابن أبي السعود المتوفي عام 870ه قام بغسل جميع ما كان عنده من نظم ونثر. كما كان للتعصب الديني أو المذهبي أو السياسي دورا في حرق الكتب والتنكيل بأصحابها، فالحكام والخلفاء كانوا إذا أرادوا اضطهاد المعتزلة والفلاسفة أحرقوا كتبهم ومن أشهر حوادث حرق الكتب نتيجة اضطهاد الحكام للمعتزلة والفلاسفة ما فعله السلطان محمود الغرنوي لما فتح الري وغيرها 420ه قام بقتل الباطنية ونفي المعتزلة وأحرق كتبهم ,كما حوربت كتب الغزالي في المغرب العربي من قبل أمراء المرابطين خصوصا كتابه علوم إحياء الدين الذي قام بحرقه علي بن يوسف بن تاشفين المتوفي 537ه، وفي زمن الموحدين تم اضطهاد المؤلفين ممن كتبوا في علم المذهب والفقه وأحرقت كتبهم. في القرن السادس الهجري قام المنصور الموحدي بإحراق كتب المنطق والحكمة وإلحاق الضرر بمن وجد عنده شئ من هذه الكتب. وعندما وقع كتاب " النصرة لمذهب إمام دار الهجرة" تأليف الإمام القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي بيد بعض القضاة الشافعية بمصر، تم إغراقه في النيل بسبب التعصب المذهبي. ومعظم المكتبات التي تأسست في العصور العباسية والفاطمية والاندلسية انتهت بشكل مفجع تماما وضاعت الجهود التي بذلت في جمع الكتب والمخطوطات. عند إنهيار الدولة الاندلسية لم تنج الكتب من المحارق فأمر الكاردينال سيبسنيروس عام 1501م بحرق مكتبة مدينة الزهراء التي كان بها ما يقرب من 600 الف مخطوط سنعطي أمثلة علي أهم المكتبات التي تم حرقها، مكتبة بيت الحكمة لبغداد التي أسسها هارون الرشيد ورعاها ابنه المأمون إلي حين تدميرها وكانت تحتوي علي مرصد فلكي بجانب كتب التراث الاسلامية والسير والتراجم والرياضيات والفلسفة والأدب. ولقت دار العلم بالقاهرة نفس مصير دار الحكمة في بغداد وكانت تعد أكبر مكتبة عرفها التاريخ الاسلامي وقد أسس المكتبة الخليفة العزيز بالله الفاطمي في قصره ثم بني إبنه الحاكم بامر الله مبني خاصا بالمكتبة في عام 395ه بجوار القصر وأباح الخليفة المطالعة فيها لجميع الناس وقد بلغ عدد قاعات المكتبة ثماني عشر قاعة وكانت تحتوي علي مليونين ومائتين من المجلدات. في عام 1068م الذي شهدت فيها مصر مجاعة كبيرة ولم يستطيع الخليفة آنذاك من دفع رواتب الجند مما دعاهم للهجوم علي المكتبة فأتلفوا الكتب المجلدة تجليدا فاخرا واتخذوا من جلودها نعالا وأحذية لهم وعندما تولي صلاح الدين الأيوبي حكم مصر قام بتوزيع محتويات المكتبة علي رجاله وبيع بعضها بسعر بخس. وعندما استولي العمانيون علي البحرين عام 1802م الغزوة الثانية، تم دخولهم جزيرة " النبيه صالح" وكان علماء البحرين يودعون كتبهم في هذه الجزيرة خوفا عليها من التلف إلا أن بعد استيلاء عمان علي البحرين تم نهب المكتبات في هذه الجزيرة وإلقاء الكثير من الكتب والمخطوطات في عرض البحر وبذلك خسرت البحرين الآلاف من الكتب في الفلسفة والتاريخ والتراجم والفقه واللغة والأدب. وأجهزت الحروب الصليبية التي استمرت زهاء قرنين كامليين، 1096م إليي291 1م علي ما تبقي من كتب ومكتبات ففي شرق الوطن العربي حرق الصليبيون مكتبة بني عمار في سوريا، وفي غرب الوطن العربي في شبه جزيرة ايبيريا حرق الأسبان ودمروا الكتب من أجل القضاء علي التراث العربي كما نهب العديد من المكتبات ونقلت الآلاف من المخطوطات العربية إلي اسطنبول. حرق مكتبة " دار العلم" في طرابلس بسورية التي أسسها بني عمار علي يد الملك طغرل بك في 450 ه وكانت تحتوي علي 10400 كتاب ومن بين أهم المكتبات التي أحرقت علي أيدي حكام العرب ( مكتبة ابن حزم الاندلسي) فقد أمر المعتمد بن عباد صاحب أشبيليه بحرق كتبه علنا، ونتيجة للحقد والغيرة والحسد أعطي الخليفة العباسي الناصر لدين الله المتوفي 622ه أوامره بحرق مكتبة عبد السلام بن عبد القادر بن أبي صالح بن حبكي المدعو بالركن، وهي ثاني مكتبة تحرق بأمر حاكم عربي لأن مكتبته نالت شهرة واسعة خاصة إنه جمع من كتب الفلسفة والكتب العلمية ما لم يجمعه غيره مما أدي إلي التشهير به وإحراق كتبه. وعند إنهيار الدولة الاندلسية لم تنج الكتب من المحارق فأمر الكاردينال سيبسنيروس عام 1501م بحرق مكتبة مدينة الزهراء التي كان بها ما يقرب من 600 الف مخطوط في مكان يسمي "باب الرملة" في غرناطة فاختفت العديد من المخطوطات وامهات الكتب النفيسة. اختلف المؤرخون حول حريق مكتبة الاسكندرية فبعضهم يؤكد أنه تم في عام 48 ق.م عندما قام يوليوس قيصر بحرق 101 سفينة كانت موجودة علي شاطئ البحر المتوسط أمام مكتبة الاسكندرية بعدما حاصره بطليموس الصغير وامتدت نيران حرق السفن إلي مكتبة الاسكندرية ,فحين يذكر التاريخ كذلك أنه قد لحق بالمكتبة "سيرابيوم"أضرار فادحة عام 391م عندما قام الامبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول بتدميرها. وبعض المؤرخين يرجع حريق المكتبة إلي عمرو بن العاص بعد دخول العرب الإسكندرية عام 646م وتدمير أسوار المدينة ,قام عمرو بن العاص بناء علي رد عمر بن الخطاب له ( فإن كان ما فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غني، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة لنا به) فقام عمرو بن العاص بتوزيع الكتب علي حمامات الاسكندرية لاستخدامها في إيقاد النيران لتدفئة الحمامات واستمر احراق هذه الكتب لما يقارب الستة أشهر. في القرن السادس عشر أحرق الأرشيدوق دييغودي لاندا كل مكتبات المكسيك القديمة ودمر الغزاة الأسبان كل الآداب المتعلقة بحضارة " المايا" تدميرا كاملا بصفتها علوما وثنية ( باستثناء أربع وثائق فقط موجودة الآن في متاحف أوروبية) .ولم يفلت القرن العشرين من الممارسات الوحشية لحرق الكتب وإضهاد المفكرين في العالم كله. ففي العاشر من آيار 1933 بعد أربعة أشهر علي دخول هتلر إلي السلطة حمل طلاب واساتذة جامعيون وقادة نازيون آلاف الكتب إلي ساحة ميدان الأوبرا في وسط برلين وأشعلوا النار فيها واحتشد أكثر من 70000 متفرج لمشاهدة محرقة الكتب وتم حرق الكتب ( غير الألمانية) التي تختلف مع الأيديولوجيا النازية. وفي شيلي أحرق الديكتاتور بينوشيه الكتب التي لا تناسبه في الساحات وزج بالكتاب في السجن في عام 1973. وفي 21/2/2015 قامت داعش بحرق آلاف الكتب في الفلسفة والقانون والشعر والعلوم في الموصل شمال العراق " تم حرق أكثر من 8 آلاف كتاب ومخطوطات نادرة في مكتبة الموصل المركزية وسط المدينة" واحدة من أقدم المكتبات التاريخية في نينوي وكرروا عملية حرق الكتب في عدة أماكن منها مكتبات جامعة الموصل ومتحف الموصل والمكتبة المركزية الحكومية والمكتبة الإسلامية ومكتبات الكنائس والمساجد القديمة.