في فيديو مصور مدته لا تتجاوز الخمس دقائق، بثته داعش علي الانترنت وحمل شعار ولاية نينوي. ظهر مجموعة من الرجال الملتحين وهم يهدمون عددا من الآثار الآشورية والعراقية في متحف مدينة الموصل بالعراق. الفيديو يوضح جزءا من مسيرة الهدم والتدمير التي تتبعها داعش مع كل الآثار التاريخية سواء كانت آثارا إسلامية كهدم قبور الأولياء والأنبياء في مختلف المدن الواقعة تحت سيطرتهم، وحتي المواقع الأثرية الهامة كتفجيرهم "سور نينوي" التاريخي الذي يعود للحضارة الآشورية ويحيط بالمدينة القديمة. نيران داعش لا تقف فقط عند الآثار المعمارية بل حتي الكتب والمخطوطات التاريخية الثمينة، حيث فجر وحرق التنظيم المبني المركزي لمكتبة الموصل بوسط المدينة وحرق محتوياتها من الكتب والوثائق والمخطوطات النادرة، في تكرار لحوادث تدمير التراث المعرفي التي مرت بها المنطقة مع الحملات الصليبية علي بلاد الشام وهجوم المغول وحرقهم لمخطوطات مكتبات بغداد قديماً. يمكن الاستمرار في الإدانة وإصباغ عشرات الأوصاف السلبية علي تنظيم داعش ومتطرفيه كوصفه بالجنون أو الجهل، لكن يظل السؤال لماذا تهدم داعش الآثار التاريخية بهذه الوحشية وتوثق لهذه العمليات بمنتهي الفخر؟ ربما تكون الإجابة في واحد من الأسباب التالية وربما تكون جمعيها مجتمعة، لكن في النهاية هي محاولة لمعرفة القوة الكامنة خلف الغضب الهمجي الذي نواجهه. الإسلام يأمر بهدم الآثار والتماثيل التي تمجد آلهة الكفر في مقدمة فيديو هدم متحف الموصل يظهر أحد أفراد التنظيم وهو يشير إلي التماثيل خلفه موجهاً حديثه للمشاهدين، بأن هذه التماثيل هي أصنام لآلهة الكفار القديمة قائلاً: "ما يسمي بالآشوريين والأكّاديين وغيرهم كانوا يتخذون آلهة للمطر وآلهة للزرع وأخري للحرب يشركون بها بالله ويتقربون إليها بشتي أنواع القرابين". ثم يكمل حديثه بتلاوة عدد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مضيفاً بأنه هان عليهم تحطيم هذه الآثار وإن كانت بمليارات الدولارات. لتبدأ بعد ذلك مشاهد الهدم للآثار. أما المنحوتات التي لم يمكنهم هدمها بالمعاول والمطارق الضخمة فقد تم استخدام المناشير والقواطع المستخدمة في تقطيع الرخام لتشويهها وطمسها. حديث عضو التنظيم الإرهابي المستند إلي بعض التفسيرات الإسلامية ليس بجديد، وهنا في مصر كانت هذه الآراء مطروحة بشكل علني بل وبعض القيادات السلفية لحزب النور أحد الأحزاب السياسية المشهرة والعلنية في مصر تحدثوا أكثر من مرة عن ازدرائهم للحضارات القديمة والحضارة الفرعونية. عبد المنعم الشحات أحد قيادات الحزب وصف الحضارة المصرية القديمة بالعفنة وطالب بتغطية التماثيل العارية بالشمع حتي نصل إلي مرحلة تطبيق الشريعة الإسلامية التي يري أنها أمرت بهدم هذه الآثار. سواء في مصر أو العراق فقد دخل المسلمون هذه البلاد منذ أكثر من ألف عام، وطوال هذه المدة لم تثر أبداً قضية هدم الآثار القديمة بل ظلت باقية حتي وصلت إلينا الآثار سليمة أو للدقة معظمها. اللهم مع بداية القرن العشرين وظهور مشروعات الحداثة المختلفة حيث تبنت الحركات الأصولية الإسلامية مواقف سلبية من هذا التراث. وكانت أراؤها محوراً لردود عدد من الفقهاء ورجال الدين المسلمين الذي حاولوا تحديث الخطاب الديني لانتاج صيغة توائم بين الماضي والحداثة. أبرز هذه الأراء كان موقف الإمام محمد عبده الذي أباح اقتناء التماثيل والنحت بمختلف أشكاله، والسبب في ذلك هو انتفاء علة التحريم، حيث يري الإمام أن تحريم التماثيل قديماً كان بسبب استخدامها كبديل وشريك لعبادة الواحد القاهر. وبالتالي فقد كان تحريم التماثيل خوفاً من عبادتها، أما في العصر الحديث حيث انتفت هذه العلة فالتحريم يسقط. ذات الفتوي تكررت بتفصيل أكثر في بيان الأزهر الذي خرج تعليقاً علي فيديو هدم آثار الموصل، حيث استشهد الأزهر بموقف الصحابة الأوائل الذين فتحوا هذه البلاد ولم يقوموا بهدمها، كما أضافت دار الإفتاء في بيان لها: "الآثار تعتبر من القيم والأشياء التاريخية التي لها أثر في حياة المجتمع والأمة؛ لأنها تعبر عن تاريخها وماضيها وقيمها، كما أن فيها عبرة بالأقوام السابقة، وبالتالي فإن من تسول له نفسه ويتجرأ ويدعو للمساس بأثر تاريخي بحجة أن الإسلام يحرم وجود مثل هذه الأشياء في بلاده فإن ذلك يعكس توجهات متطرفة تنم عن جهل بالدين الإسلامي الحنيف". انتقاماً من كل مشاريع الحداثة يطرح محمد الدخاخني في مقاله المنشور علي موقع التقرير تحت عنوان "داعش ليست مشكلة إسلامية-إسلامية". رؤية آخري لا تري "داعش" كتعبير عن مأزق تواجهه تيارات الإسلام الأصولي بعد الربيع العربي. بل يري أن الإسلام ليس إلا ثوبا ظاهريا تخفي تحته مأزقا حقيقيا تواجهه الدولة الحديثة، والحداثة سواء في أوروبا أو بلاد العرب حيث يقول الدخاخني: "هدفت الدولة العربية الحديثة إلي إخضاع كل البني والتكوينات الاقتصادية والاجتماعية غير الحديثة، أو بالأحري قبل الحديثة، سواء عن طريق محوها تمامًا أو تهميشها أو إعادة مفصلتها أو عقلنتها/ترشيدها داخل الجهاز البيروقراطي للدولة. كما عملت علي خلق هوية أُمّ يجتمع حولها الناس ليقدموا الولاء لميتافيزيقيتها وتعاليها، لكن بمرور الزمن والاختبارات ظهر فشل وخواء هذه الهوية. بطبيعة الحال لم تكن عمليات العقلنة هذه بنفس سطوة قرينتها في الدولة الغربية، لكن ما تشترك فيه مشاريع التحديث الناجحة هناك والفاشلة هنا، هو إنتاج ذوات حديثة نرجسية ومفككة، بتعبير أدورنو. يتم هذا في الدولة الغربية بفعل التطور الرأسمالي والضبط والترويض من قِبل أجهزة الدولة، ويتم في الدولة العربية بفعل إخضاع التكوينات القديمة وخواء الهوية الأُمّ؛ لكن يحدث أن تتعزز هذه النرجسية هناك في الفاشية والنازية، بينما تتعزز هنا في العودة إلي الآلهة القديمة في أشد أشكالها الطائفية والإثنية بؤسًا. ما يجمع بين الألماني والتونسي الموجودين في داعش ليس هو الإسلام فقط، وليس هو الإسلام بالدرجة الأولي، بل نرجسية الذات الحديثة وتشظيها، فكما يشير وائل حلاق: أدت انقسامات الذات الداخلية إلي فرد نرجسي يستمد مرجعيته ومعناه مما هو غير شخصي ومن أنماط القوة المثالية (ممثلة في القومية والفاشية والنازية،... إلخ) التي ساقته إلي شعور زائف بالشمول. وتجد الأنا النرجسية في أنواع القوة هذه ملاذًا ومستقرًا بل وأرضًا." من رؤية الدخاخني يمكن فهم ما تقوم به داعش كعملية هدم متعمدة لأي جذور تاريخية تربط الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم بالماضي أو بأي هوية غير هوية "دولة الخلافة" وكأن عملية الهدم جزء من طقس التعميد المعتمد مع المقاتلين الوافدين إلي داعش حينما يقومون بتمزيق جوازات سفر البلدان التي قدموا منها كنوع من التخلي عن أي عناصر للهوية سوي الهوية التي تقدمها داعش كخلافة باقية وتتمدد، تتحقق رسالتها بغزو العالم، وإلغاء كل مشاريع الدولة الحديثة ذات الحدود القومية التي نعرفها. جزء من تكنيك الحرب ووسيلة لتمويلها من خلال بيع الآثار تظهر الصور والفيديوهات التي تبثها الآلة الإعلامية لداعش عمليات هدم تطول قطع تماثيل ضخمة جميعها تشترك في صعوبة نقلها وبيعها، وبالتالي مع كل مرة يتم بث مثل هذه الصور يظهر سؤال يخص أين بقية القطع الآثرية والمتحفية. فمتحف الموصل علي سبيل المثال يعتبر من أقيم المتاحف العراقية التي تضم آلاف القطع، وما يظهر في الصور والفيديوهات لا يتجاوز عشر قطع. أحد التفسيرات المقدمة كما يوضح د.جمال شقرة مدير مركز بحوث الشرق الأوسط بجامعة عين شمس أن ما يحدث هو عملية تزوير تقوم بها داعش الغرض منها التغطية علي عمليات البيع غير الشرعية التي تتم لهذه الآثار في السوق السوداء. فداعش لا تهدم كل الآثار التي تستولي عليها بل يقومون بعمليات نهب منظمة للمتاحف، ويبيعون هذه الآثار لتغطية تكاليف الحرب. حديث د.جمال شقرة يتوافق مع التحليلات الأخري التي تتحدث عن اقتراب موعد هجوم القوات العراقية علي مدينة الموصل لتحريرها، فداعش تستفيد من بث هذه الفيديوهات في رفع الروح المعنوية لجنودها وتأكيد سيطرتها علي المدينة وبث الرعب في قلوب أعدائها، وهو التكنيك الذي تتبعه داعش في استخدامها لوسائل الإعلام.