بكتابة الجديد (الحداثة اللا متناهية الشبكية..آفاق بعد ما بعد الحداثة)، والصادر مؤخرًا عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، يدخل الشاعر والباحث اليمني هاني جازم الصلوي أرضًا بكْرًا لم تطأها أقدام كثيرين قبله، يدخلها متناولا موضوعًا يعتبر في اللحظة الآنية من أهم الموضوعات المثارة علي الساحة الإبداعية والثقافية، بل والفكرية.يتناول الصلوي في كتابه هذا موضوع بعد ما بعد الحداثة، مازجا إياه بالكتابة الرقمية التي وُلدت مع مولد الشبكة العنكبوتية/ الإنترنت. كما يتحدث عن الرقمية بين إشكاليتيْ الورقية وهدم الأطر الفلسفية والنقدية، عما قبل الإنترنت، عن الحداثة، ما قبل بعدها وما بعد بعدها، عن اللاتناهي الشبكي وانهيار المثقف، وعن الفن اللامتناهي الشبكي.هذا ويصف الصلوي كتابه بأنه كتاب في رثاء الكتابة، أو بمعنًي آخر هو مرثية للكتابة أو تشكيكية في جدواها مع إيمان وشيك بأن الانتقال إلي ما بعد الكتابة قد تم شئنا أم أبينا. أقفاص مركزية يقول الصلوي عن كتابه في مقدمته التي وضعها علي غير العادة في آخر الكتاب:لعل من المفيد في بداية هذا الكتاب الإشارة إلي كون ما قمت به طيلة المحاورالسابقة لم يكن سوي تفكيرنا جميعاً بصوت عال ٍ ومخاتل لاستنباط " لانظرية " لامتناهية لا تؤطر ما نحن عليه في أقفاص مركزية أو رسمية بل تشتبك مع هوياتنا وتتدافع معنا نا في كل الاتجاهات وهذا أولاً.ثانياً وهو الأهم فإن هذا الكتاب في الحقيقة دعوة لكل من يمر عليه لكتابته بالصيغة التي يحب ويؤمن بجدواها ولاجدواها لتكون اللانظرية أو اللاتناهي الشبكي الحداثات/ الرؤي هي ما ستكتبه أنت، نحن، هم، هن، هما، بعد الاشتباك مع جميع لامتواليات الدراسة. هذا ويري الصلوي أن اللامتناهية الشبكية لا تحبذ الغوص في تفاصيل شكل القاريء الجديد والكاتب الجديد والنص الجديد، كونها تثبت كل لحظة، أن تلك مفاهيم تنتمي لمرحلة أسبق وهي علي الدوام تقدم متغيرات أجد.كذلك يعلن أن السياق اختلف مع المرحلة الرقمية باعتبارها حياة بعد مابعد حداثية لها خصائصها وسماتها التي تعاش بشكل دائم، ومن هنا انبثق هذا الطرح الذي يمكننا أن نسائل من خلاله العصر والمنظومة بشكل عام، مع الانعطاف ناحية فلسفة الأدب، مالذي تبقي من الأطر السابقة نظريات وأفكار ومدارس ومبادئ واستراتيجيات؟ مع إدراك تام أن الفعل (المساءلة) لايمكن أن يتم من خلال ورقة نقدية أو فصل في كتاب أو رسالة أكاديمية، لأنه يحتاج إلي مؤتمرات دائمة وورش لاتكف عن الرصد والاستفهام. عصر المعلومات اللامتناهي هذا ويكمل الصلوي إنه في قمة انغماسه في ماله علاقة بالحياة الافتراضية والرقميات وتحمسه لها عادت إلي دائرة اهتماماته جملة من التساؤلات حول ماهية بعد ما بعد الحداثة الملغزة ليجد نفسه يميل إلي تبني اقتناع ملموس اقتضي حينها السن والمرحلة تبنيه بحماس مفرط وسطحي وهو أن عصر الوسائط هو عصر بعد مابعد الحداثة في حين تؤكد معظم الدراسات علي ما بعد حداثية عصر الصورة والوسائط المتعددة، وهو مالم يستطع أن يضمه إلي يقينياته حينها.إلي جانب ذلك يضيف قائلا إن " مابعد الحداثة " قد حررت العقل ذاته من المركزية بانحيازها إلي العقل غير الصارم، وغيرالمنطقي، وغيرالمتماسك (المتشظي)، إلي الإنسان المتناقض، المتعدد بدلاً عن الإنسان الكامل، النهائي، وهو ما ساهم في انبثاق فكر " بعد مابعد الحداثة " وبالأخص في هيئته "اللامتناهية الشبكية " التي تقترحها هذه الدراسة. ويكمل أنه مع ظهور الإنترنت كان تفكيكك مركزية العقل اللامركزي (ما بعد الحداثية) ضرورياً وهو ماتم من خلال نظريات بعد مابعد الحداثة (بالطبع باستثناء النظريات المنعكسة منها)، أو بالأصح مافعله عصرالمعلومات اللامتناهي.وفي الاتجاه نفسه يستطرد الصلوي فيقول إنه مع كل هذا لابد من ذكر بعض النقاط الفاصلة التي احتوي عليها المتن وكانت حطباً لذيذاً لمواقد بعد ما بعد في الحداثة اللامتناهية الشبكية.منها تأكيد المتن علي كون النصوص الجديدة خارج المجانية والتهديف معاً (عودة إلي الشعر أيضاً)، التأكيد علي شعرية التقنية، انعدام الوجود الخارجي للأشياء، وسم النصوص الجديدة بالعلمانية والديمقراطية، عده ثورة النص الجديد حداثة ثالثة (بعد ما بعد حداثة إذن)، إيمانه بسقوط مفهوم الريادة نهائياً كون زعم كهذا ليس إلا زعماً مرضياً من منطلق أن الانفلات هذه المرة انفلات جماعي، عودة مصطلح الغرض بأشكال جديدة فيما يتعلق بالشعر، مقارنته الموجودات الرقمية الحاسوبية التقليدية بمشاهد تتعلق بعصر الصورة وتوضيح تفوق مشاهد عصر الصورة عليها، التأكيد علي الوضوح وعلي كون النص الجديد نص رؤيا وواقع وافتراض.وعن سؤال المخاوف مما وصل إليه الحال الشبكي يقول إنه هو سؤال ما بعد الحداثة بحكم أن ثورة الحاسوب الأولي قد بدأت مع ما بعد الحداثة كما أن سؤال العوالم الفائقة أو الفكر الفائق ذلك الفضاء الذي تعده هذه المقاربة صلة الوصل الحقيقية بين ما بعد الحداثة وبعد ما بعد الحداثة في صيغته اللامتناهية الشبكية. سرود وثائقية وحين يتحدث الصلوي عن السرد اللا متناهي الشبكي يقول إنه يأخذ بوصفه سرد بعد ما بعد الحداثة ببعديه الرقمي والكتابي المتحول صيغاً غير ثابتة، إذ تظهر في فضائه المعتمد موجات من السرود الوثائقية (دان براون مثلاً عربياً عزازييل وأخواتها) كما عاد الشكل في فاعليات جديدة ويستحسن التأكيد هنا علي فقدان الفارق بين المادي الحسي والمعنوي أو بالأصح علي تغير فكرة المادي والمحسوس تماماً. إلي جانب ظهور نمط من الروايات التي تعتمد الشكل الرقمي سردا خالصاً مثل روايات الشات والحيل الرقمية.هذا ويُعد الأدب الرقمي كما يري الصلوي - واحداً من أهم متجاذبات اللاتناهي الشبكي إلي جانب كونه متغيراً مهماً من متغيراته النشطة إن لم يكن سياقاً أساسياً فيما يخص اللامجتمع الافتراضي أو اللامتناهي.علي المستوي العربي ثمة جهود وضعت اهتماماتها عند هذه النقطة محاولة خلق نص عربي رقمي إلا أنها وقعت في فخاخ عدة حيث اشتبكت في عملها أفكار التكنولوجيا في جانبها المابعد حداثي وقلة منها اقتربت من الهَم الفائق بأسقف عالية وغير عملية وربما نجت من ذلك بعض المحاولات التي عملت في الفكر الرقمي العام رغم ارتباط أهداف هؤلاء بالبعد التنموي بصورة أساسية. ويكمل الصلوي في هذا الاتجاه فيقول إن منظري الأدب الرقمي يرددون أنه لكي نطلق علي أدب ٍ ما أنه رقمي لابد ألا يكون مكتوباً، ويجب أن يكون خارج اللغة الناظمة كلياً للنص الأدبي العادي، بمعني أن النص الرقمي ليس لغة أبداً، بصيغة أوضح: يسمي النص بالرقمي حين تكون اللغة فيه حاضرة بشكل غير مسيطر. قصيدة النثر كذلك يتحدث الكتاب عن قصيدة النثر بوصفها جنسا أدبيا أفاد كثيرا من الشبكية الرقمية، موضحا ظروفها المحيطة في ظل وجود وتنامي الكتابة الرقمية وما قدمته لها. هذا وفي الأخير يذكر الصلوي أنه ليس من المجدي التأكيد علي أن" اللامتناهية الشبكية" جهد عربي؛ ذلك أن الحقبة تقول بزوال الحدود بين المجتمعات" وهي الآن في مرحلة انتقال نحو اللاحدود.وربما أتت عربية هذا الطرح من لغة كتابته فحسب.بقي أن أذكر أن الكتاب يُظْهر الجهد الذي بذله الباحث، وهو بحق يُعد واحدا من أهم المراجع في تخصصه، سيعود إليه فيما بعد باحثون كُثر،حين يتناولون هذه القضية الأهم في هذه السنوات.