هل أدركتَ يا فتي أنّكَ في الأصل شاعر ؟ دائمًا ما أؤمن أن الكتابة الجميلة هي ما تكفل لك أحدَ هذه الأشياء و يا حبّذا لو جميعها : بالطبع المتعة أوّلاً ما يجعلك ترغب في إعادة القراءة أو علي الأقل بعض المقاطع ، أن تتذكّر منها اقتباسًا يدفعك و أنت تقرأ أن تُظلّلّه بقلم التّحديد ، و أخيرًا وهو الأهم : أن تكون مُلهِمةً لكَ لكي .. تكتب . ما أفهمه عن الفّنان-و بالأخص الشّاعر ذ أنه حالمٌ بينما يحيا ، ما في مخيّلته أكثر واقعيّةً من الحياة المعاشة ؛ لذا ، هو يري الجمال في تفاصيل الحياة التي نمر بها مرارًا وتَكرارًا دون أن نلحظها لمَ ؟ هياه الرّوتين نوعًا ما أو إنشغالات الحياة . لستُ بصدد كيل مديحً للعمل الذي أتحدّث عنه ، لكنه كان من الجمال و الرّقة بحيث أدهشني كثيرًا أن يكون هناك وجوهٌ مختفيّةٌ في المشهد الثقافيّ إبداعيّتها المبكّرة التجريبيّة تُنبيء بأعمال مستقبليّة قد تُناطِحُ العالميّة ! "رقصٌ ..وجع .. رقص" الحُلم هو ثيمة واضحة للغاية في تلك المجموعة القصصيّة ، في القصّة الافتتاحيّة ؛ مسجونٌ يحلمُ .. و بمَ سيحلمُ مسجونٌ ؟ بالطّبع سيحلمُ بالحرّية ،و لأنه محرومٌ منها فهّو يحلمُ بالنّور؛يترصّد له كي يأسره ليؤنسه في الليل ! في قصّة لعبة كرات الصّوف ،تلك التي تقيم في مشفي للأمراض العقليّة و لم يُذكَر ذلكَ صراحًة و هذا في حدّ ذاته لفتة إبداعيّة ؛ حيث القاريء مُسنَدٌ له دور بالنّص ؛ لا شك أن ذلك يطوّر التقدير الذّاتي عند القاريء إنطلاقا من مبدأ: لا تعطني سمكًا لكن ، علّمني كيف أصطاد - حيث الحلُم هنا للتخلّص من هواجس الخوف ، قد يكون لاوعي الكاتب غافله أيضًا و دفق منه ثيمة التوق للحرّيّة حيث صدّر القصّة : في حجرة ضيقة معتمةٍ عالية الجدران ، تعيش .. يصلُ إليها في أول النهار شعاعٌ نورٍ هارب .." في كِتابه البديع : السلام و الحب و الشّفاء الصادر عام 1986 يتحدث الدكتور بيرني سيجل عن بحثٍ خاضه هو بنفسه عن تجارب علاجٍ بالخيال عن أُناسٍ أمرضوا أنفسهم بالخيال ، و آخرين قد شُفوا من السّرطان بالخيال ، في قصّة لعبة كرات الصّوف ،تكثيف و ملامسة لتلك الفِكرة ، حيث تصوّر تلك البنت هواجسها و مخاوفها في صورة كرات البلياردو تُسقطها واحدةً تلو أخري ، و الكرة السّوداء القاتمة المتمثّلة في الخوف من الموت ، مازالت لم تستطع أن تُسِقطها ، مَن علّمها تلك اللعبة لم يعد موجودًا ، لذا ، قد يكون لم تستطع التغلّب عن المجهول و الخوف الأعظم و هو الموت لغياب شيءٍ هام .. الحب . من الواضح أن النّص لا يستدعي أن يُلوي لنستخرج تلك الرمزيّات التي قصدها الكاتب ، اثنتان و ثلاثون قصّة مكتوبةً بتكثيف و إبداعية للغاية، تحتفي بتفاصيل العالم : من الذاكرة والحنين حتي الجنون ، و هذه في الحقيقة روحُ شاعرٍ قبل قَصَصيَّته، توضح أن الكاتب قصد تسليط الضوء علي لمحات خاطفة جميلة ؛ علّها عملٌ تجريبيّ أثق أن صاحبه سيتكب بعدها رواية علي نفس النّمط؛ لأن من يملك تلك الأدوات لن يرضي باستهلاكها في نصوصٍ قصيرة . التساؤل : مَن أنبأنا بذلك . والجواب : استدعاء نصوص عالميّة لا حشرًا ولكن إستلهامًا من ميلان كونديرًا إلي قصّة عم فرج المُضمّنة أحد أبيات سونيتات شيكسبير ، و جان جينيه ، و صمويل بيكيت ، النًّص كُتِب و ما علي القاريء سوي أن يأخذ دوره في القراءة لا أن يقرأ فقط الكتاب؛ جُعِلتِ الكتب لا لِنقرأ ما تقول وحسب ؛ لكن لنستقرئ ماذا تريد حقّا أن تقول . الاعتناء اللغوي بديع للغاية ؛ في قّصة اللحظات الأخيرة في حياة فأر شجاع ، ماذا يمكن أن نفعل حين يدخل فأر حجرة و نريد أسره ؟ سنغلق الباب لنحبسه ،حسنًا ، فِعل الغلق طبيعيّ، لكن هناك لفظٌ مُستَخدَم لم يُدَع إعتباطًا و هو " غلّقوا الأبواب" أي الإمعان في إحكام الغلق ، و لاشك القاريء سيستدعي الآية في سورة يوسُف ، ألفاظٌ مُكثّفة غير دارجة الاستخدام مثل : نتباسم ، كَمِن لنور الصّباح القادم ،و غير ذلك . يُلاحظ الإعتناء الواضح بعلامات الترقيم ؛ حيث ما إستقرأته أن الكاتب لأنه لم يُرْفِق إسطوانة بالكتاب تحوي تسجيلا للنص كما يجب أن يُقرأ بنبر معيّنة ؛حيث يريد القاريء أن يسمع نصّه وكأنه يُلقيه ، إستعاض عن ذلك باللعب بعلامات الترقيم و النْقْطِ حدّ تفريط كلمتي "ذرّة"و "حبّة" في ثلاثة أسطر في قصّة بديعة لا تزيد عن خمسين كلمةٍ و هي :"قشرة رمل " كي يصل الإحساس كما يريده الكاتب !حيث الكتابة كما الموسيقي ؛ تُعني بالزّمن؛ علامات الترقيم كانت كميزان المازورة التي توضع في يسار النوتة الموسيقيّة لتحدّد الTempo الذي يجب أن يتّبعه القاريء لكي يقرأ النّص كما أراده كاتبه . كلُ تلك الأشياء لم توضع إعتباطًا . هناك قصصً غير واضحة المغزي كالمجنون لم أفهم ما أراد منها حقيقةً، لكن هناك ، بعض القصص موضوعة قصدًا وفق ترتيبٍ معيّن حيث" محاولة موت" ، يتبعها بخمس قَصص "قريني لا يريد الموت معي "و أخيرة قصّته :" موت قريني". هناك عملٌ لواسيني الأعرج " مملكة الفراشة " رأيته فاشلا من جميع النّواحي و كان به فقط استعراضيّة للثقافة ، هنا استدعاءات كثيرة تدل علي سعة ثقافة الكاتب ، و تضمين شذرات تلك النّصوص كان يخدم أغراضا إبداعية كنوعٍ من الإستلهام : و كان تسليمه عليّ وداعا ، بيتٌ للمتنبّي كان هو لحظة التنوير في أقصوصة من ثلاث عشرة كلمة ! ما أفهمه عن الثقافة ليس هو احتشادُ المعرفة بقدر استخدامها و الاستلهام منها .الاحتفاء بالكتب و الغرام بها بدا واضحًا غير مرّة ؛ حيث في واسطة الِعقد قصّته: زوربا و إستلهامه منها حيث الرّقص توقٌ للتحرر ، العنوان رقصٌ .. وجع. رقص .. زوربا يرقص كي لا يموت من الألم ، الرّقص و التوق مرّة أخري للحرّية !كيف أنهي ماركيز مئة عامٍ من العزلة ؟ حسنًا ، في تلك المجموعة ، آخر قصّة تغلق خلفها الكتاب هي : كتابي الذي أقرأه ، اضطربت أحرفه : تداخلت الكلمات و الأسطر . أصبح كتابًا آخر , كتابًا جديدًا . انتهي الكتاب . قلت سالفًا أن الاقتباس هنا في الكتاب ليس استعراضيّا بقدر كونه استلهاما . حسنًا أشتم في القصة الأخيرة رائحة كتاب الرّمل ذ بورخيس !إضافة : هناك بعضُ فيض من روح إدواردو غاليانو بالكِتاب . حقيقةً دُهِشتُ و لم أتوقّع أن أقرأ كِتابًا- علي صِغره - به كل ما قد رأيته ، رغم غثاءٍ يملأ السوق ، أؤمن تماًماً أن الزَبَد يذهب جُفاءً ، و أن ما ينفع النّاس سيبقي في الأرض . قريبًا ستظهر للنور أعمالٌ إبداعيّة تُزاحمُ قوائم المبيعات العالميّة . يقول لوكاريه اكان يونج يعتقد أن الله يخاطبنا في الأحلام و الرؤي ب حيث المرء لا يكبر في السن إلا إن توقّف عن الحُلُم ، هل أدركتَ الآن كاتبَ الكتاب- أن بك روح شاعرٍ تتوق للتحرّر ؟