جامعة سوهاج ضمن أفضل 2000 جامعة على مستوى العالم لعام 2024    «المشاط»: نتطلع إلى تعزيز التعاون مع البنك الأوروبي لمواجهة التحديات المناخية    5 حالات يرفض فيها طلب التصالح في مخالفات البناء وفقا للقانون.. اعرفها    سعر طن الذرة الصفراء اليوم في مصر.. «الأوكراني» يسجل 11 ألف جنيه    مصر تبحث تعزيز التعاون مع التشيك فى مجالات التحول الرقمى والذكاء الاصطناعى    ممثل جنوب أفريقيا بمحكمة العدل: نرحب بانضمام مصر في الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل    نائب رئيس «المؤتمر»: مخرجات قمة البحرين رسمت طريقا واضحا للخروج من أزمات المنطقة    الاحتلال الإسرائيلي يواصل حربه على غزة وتقارير عن تحويله مُستشفى سرطان إلى قاعدة لعملياته    مؤتمر أرتيتا قبل الجولة الحاسمة: حلم أرسنال في يد وست هام.. ورسالة إلى مويس    رئيس اتحاد الكرة الفلسطيني: نبحث تعليق مشاركة إسرائيل في المباريات الدولية    المصري يواصل تدريباته على ستاد الكلية الحربية استعدادًا لمواجهة انبي    الهلال السعودي يتعرض لضربة موجعة قبل الديربي أمام النصر    توماس توخيل يعلن رحيله عن بايرن ميونخ في هذا الموعد    توزيع منهج التاريخ على أسئلة امتحان الصف الثالث الثانوي 2024.. ذاكر بتركيز    حريق ضخم يلتهم 7 منازل و4 أحواش ماشية ويُصيب 4 أشخاص في سوهاج (تفاصيل)    بصورة نادرة.. كيف هنأ محمد إمام والده «الزعيم» بعيد ميلاده؟    ليلى علوي توجه رسالة لعادل إمام في عيد ميلاده: أهم نجوم القرن    أحمد السقا: أنا هموت قدام الكاميرا.. وابني هيدخل القوات الجوية بسبب «السرب»    ناقد فني ينتقد كتابة أحمد مراد مسلسل عن أم كلثوم    الإثنين.. مناقشة رواية بيت من زخرف لإبراهيم فرغلي بمبنى قنصلية    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    ما الفرق بين المقاصد الشرعية والوطنية؟ المفتي يُوضح (فيديو)    في اليوم العالمي لفرط ضغط الدم.. إرشادات للوقاية من «القاتل الصامت»    متحف البريد المصري يستقبل الزائرين غدًا بالمجان    بوتين: العملية العسكرية في خاركيف هدفها إنشاء منطقة عازلة    بعجينة هشة.. طريقة تحضير كرواسون الشوكولاتة    أوقاف البحيرة تفتتح 3 مساجد جديدة    إعلام فلسطيني: شهيدان ومصاب في قصف إسرائيلي استهدف مواطنين بحي الزهور    رئيس جهاز دمياط الجديدة يستقبل لجنة تقييم مسابقة أفضل مدينة بالهيئة للعام الحالي    جوري بكر تعلن انفصالها بعد عام من الزواج: استحملت اللي مفيش جبل يستحمله    هشام ماجد ينشر فيديو من كواليس "فاصل من اللحظات اللذيذة".. والجمهور: انت بتتحول؟    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    الإنتهاء من المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلى لمبنى المفاعل بمحطة الضبعة النووية    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    مساندة الخطيب تمنح الثقة    تناولها أثناء الامتحانات.. 4 مشروبات تساعدك على الحفظ والتركيز    كيف ينظر المسئولون الأمريكيون إلى موقف إسرائيل من رفح الفلسطينية؟    مؤتمر جوارديولا: نود أن نتقدم على وست هام بثلاثية.. وأتذكر كلمات الناس بعدم تتويجي بالدوري    آخر موعد لتلقي طلبات المنح دراسية لطلاب الثانوية العامة    البنك المركزي الصيني يعتزم تخصيص 42 مليار دولار لشراء المساكن غير المباعة في الصين    المقاومة الإسلامية في العراق تقصف هدفا إسرائيليا في إيلات بالطيران المسيّر    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    ضبط سائق بالدقهلية استولى على 3 ملايين جنيه من مواطنين بدعوى توظيفها    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    كوريا الشمالية ترد على تدريبات جارتها الجنوبية بصاروخ بالستي.. تجاه البحر الشرقي    كيف يمكنك حفظ اللحوم بشكل صحي مع اقتراب عيد الأضحى 2024؟    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    إحباط تهريب راكب وزوجته مليون و129 ألف ريال سعودي بمطار برج العرب    تفاصيل حادث الفنان جلال الزكي وسبب انقلاب سيارته    وفد اليونسكو يزور المتحف المصري الكبير    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» موضوع خطبة الجمعة اليوم    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشارع التجاري
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 02 - 2015


بلد المنشأ
عند الناصية تماما، توقفت عربة نقل صغيرة أمام باب جانبي لمحل تجاري . بدأ العامل النحيف ذو الوجه المهضوم في تفريغ السلع من العربة إلي المحل .
كان السائق ينزل حمولته، ويضع علي كتفه اليسري أكثر مما يحتمل . كانت يده اليمني المتعرقة تسند " البضاعة "، وعلي هدي من معرفته بجغرافيا المحل كان ينقل خطواته في ثبات واتزان .
استمر صاحب المحل في تدخين الشيشة، معطيا شطرا من وجهه لعملية النقل التي تجري علي قدم وساق، ولما كان الجو باردا، فقد كان الدخان يتصاعد في تثاقل لأعلي برتابة شديدة.
تعثرت قدم العامل عند بلاطة منزوعة لا تكاد تُري، وحدث أن زلت قدمه، فمال بما يحمل نحو الأرض، إلا أنه ظل متشبثا بما يحمل، يقاوم في استماتة ؛ كي لا تكون الوقعة دامية، والسقوط كاملا .
أسرع السائق بنجدته، قال في نفسه : قدر الله وما شاء فعل . لم تكن هناك سوي كدمات خفيفة، وخيط من الدم سال من ركبة العامل الذي كان يلتقط أنفاسه بصعوبة، منزعجا ومتوجعا، أما عيناه فوقعتا بالمصادفة علي جملة لم يجد لها معني في تلك اللحظة : " بلد المنشأ" .
الجميلة التي هبطت
نودي علي حارس العقار؛ كي يصعد؛ ليشرف بنفسه علي إنزال حقائب العروس إلي السيارة التي جاءت مطلقة نفيرها.
صعد في همة، مستبشرا بيوم سيحصل فيه علي إكرامية مناسبة، تجعله يعود هذه المرة إلي زوجته وولديه بوجبة من الكباب المعتبر .
كانت حقائب جلدية من كل حجم ولون وشكل، مكتظة بالملابس واللوازم التي تحتاجها العروس في فرش شقتها.
إنه في الثلاثينيات من عمره، صحته علي ما يرام، لا يشعر بأي مرض سوي سعال الصباح الذي يختفي كلما دخلت عليه ساعات النهار، ودبت الحركة في شارع التجاري.
لاشك أن صاحب الشأن قد اختاره لأمانته وسيرته الحسنة، فهو شاب مستقيم، لا يرفع عينيه في وجه النساء، ولا يشرب الحشيش، ولا يعاقر الخمر. كل ما يقدم عليه من أخطاء هو شرب علبة سجائر من النوع الرخيص في اليوم، فإذا نفدت سجائره امتنع عن الشراء، حتي لو كان في حالة " خرمان" تام .
العتبة العليا تخلو تماما من الحقائب، وهو يكتم في نفسه تعبه المفاجيء، حتي لا ينظر إليه الناس نظرة شفقة، بحسبه أن يتلقي أجره، وطبقا لخبرته فلا أقل من خمسين جنيها، فهو يعمل بجهد خمسة رجال، يهبط ويصعد بلا كلل أو ملل.
انتهي تماما من مهمته، واستند بظهره علي حائط قريب من باب العمارة . رنت الزغاريد في المكان، آتية من الطابق الخامس الذي أُخْلِيَت عتبته من الحقائب. ابتسمت له العروس، فما كان منه إلا أن ردد في خفوت : "ربنا يتمم بخير يا هانم."
لحق العريس بالفتاة الجميلة التي هبطت، وكان رتل من السيارات ينتظر السيارة الأولي. تحرك بالقرب من النافذة، ولوح بيده للعريس، الذي تأفف من رائحة عرقه، حتي إنه نفر من مرآه. دس يده في جيبه، فلم يجد شيئا. قال له باستعجال : " بعدين.. هي الدنيا هتهرب"؟!
حادث عرضي
كان الهواء فاسدا في ذلك المتجر. ظل صاحبه يمسك بِمِذَبَّة، ويطارد هاموشا لا يكاد يري. فجأة تزلزل الشارع بصرخة آتية من شارع جانبي، يفضي إلي حارة " بُرق"، حيث تتجاور ورش الموبيليا.
جاء الحاج المنياوي، وهو يطلب من عبده كسبر قطعة قماش .
سأل عبده كسبر في فضول : لماذا ؟
رد الحاج المنياوي بنفاد صبر: الماكينة شقت أصابع الولد مرسي.
لوح عبده كسبر بيديه : لا يوجد عندي شاش أو قماش قديم .
تصرف.
أقطع لك نصف متر من التوب الذي أمامك ؟
نصف متر كثير، ربع متر تكفي.
خطف قطعة القماش المقطوع، وجري ناحية الورشة.
بعد دقائق، حمل زميلان المصاب باتجاه المستشفي. خرج عبده كسبر من المحل ، وتحسس مكان الجرح . لحظتها تساقطت قطرات دم قانية من اليد المصابة، فيما الحاج المنياوي يصيح بسائق الدراجة : أسرع، لا تتأخر.
بعد ابتعاد الدراجة ، صوب نظره لصاحب المحل : كم حسابك ؟
رد عبده كسبر علي الفور : سبعة جنيهات.
باحتجاج عبر الحاج عن ضيقه : ألا تعرف حاجة لله؟
لم ينبس صاحب المحل بكلمة، لكنه أدار ظهره لصاحب الورشة . دفع الغاضب النقود وانصرف .
في صدر المحل مد عبده كسبر يده ؛ لمسح الغبار عن لوحة قديمة . كادت تطمرها حبيبات سوداء من فضلات الذباب الصبر مِفْتَاحُ الفرج "، وبقيت قطرات الدم علي عتبة المحل، لا يراها المتعجلون .
الشحاذ
كانت كومة من بقايا كنس المحل المجاور لنا، علي الرصيف، مكونة من تراب وبقايا علب الأحذية، وأعقاب سجائر، وقطع سلوفان، وكرتون، تعكنن مزاج سليم البصراطي، فيقف أمام الواجهة الزجاجية، يضرب كفا بكف : الحكومة تفرض الضرائب، وتترك القمامة.
كانت بداية اليوم فاترة كالعادة، لا زبائن غير فتيات جميلات من طالبات الفترة المسائية، جئن مع قطار العاشرة، وأمامهن وقت يقضينه في الفرجة والبص علي واجهات المحلات.
جاء شحاذ يرتدي قميصا، وبنطلونا، وصديريا من الصوف، لم يكن من الشحاذين المعروفين في منطقتنا.
مد يده وهو يكرر النداء، بإلحاح واهن : حاجة لله يا محسنين.
تفتق ذهن البصراطي عن حل يرضي الطرفين، هبط الرصيف، تقدم من الشحاذ، تأمله مليا قبل أن يساومه بمنتهي الهدوء وبلا غلظة في القول : الحسنة موجودة، عليك فقط أن تحمل تلك القمامة في كيس كبير، وترميها في مقلب قمامة آخر، عند الناصية جهة اليمين.
ضيق الشحاذ مابين عينيه، هرش رأسه، ولم يتلكأ كثيرا، فقد كان رده حاسما : ليست مهنتي ؟
كاد الغيظ ينفجر في صدر البصراطي، فأمسك الشحاذ من كتفيه، وهو يهزه : لا يمنحك أحد مالا بلا عمل ؟
هذا ليس عملي؟
لكنك لا تشتغل، وهذه فرصة لتحلل المال المدفوع لك .
لا حاجة لي بمالك ؟
أنت ترفس النعمة.
وأنت تسيء التقدير.
استدار الشحاذ، وهتف بصوت أعلي، وهو يلج باب الدكان المجاور: حاجة لله، وبدون شروط يا خلق.
تربص
رأيتها بعين رأسي، تدخل محل الترزي الذي في مواجهتنا، مع بصيص ضوء شاحب حيث انقطعت الكهرباء، وأشعل الناس الشموع لجلب بعض الضوء.
يسري عطرها، فيعبر الشارع للناحية التي أقف فيها في نوبة راحة إجبارية، ورغم أن الضوء كان شحيحا، فقد جلست أمامه، ولم يدع الفرصة تفوته حيث أمسك يدها،
أبقتها قليلا، ثم سحبتها في هدوء، سألها : هل رجع زوجك من رحلة البحر؟
يتوقع أن يرجع غدا.
هل له زمن محدد؟
في العادة يبقي مركب الصيد أسبوعا.
هل تقيسين الثوب الآن ؟
لن أري شيئا، سأنتظر قليلا.
لكنني أحب أن أقيس لك في هذا الوقت، سيكون شيئا جميلا.
لا مانع.
في مكان البروفة، خلعت ثوبها، مد يده بالثوب الجديد، وبقي في مكانه بعيدا عن المربع المحظور.
جاءه صوتها : المرآة معتمة.
رد بسرعة، كأنه كان ينتظر هذه اللحظة : معي كشاف .
وقف وراءها ممسكا بالدبابيس، وعلي كتفه المازورة، جس المناطق التي بدت ناتئة .
قالت وهي شبه مغمضة : أنت شايف ؟
ضحك ضحكة فيها ارتجاف خفيف: هذه شغلتي .
انطفأت الشمعة وشحب المصباح في توقيت متقارب، شمل الظلام المكان . رأيت هيكل امرأة تدلف إلي المحل، سمعت صوت ثريا زوجة الترزي التي أعرفها وهي تصرخ عاليا، دون رغبة في تهدئة الموضوع . تهتف ويصل سمعها للمارة : ضبطتك يا أسطي مع المحروسة، أوعي تقولي دي بروفة.
الفابريقة
تلامس رأسانا، أنا ومحمد خضير، هو الأقدم في المهنة ، وأنا أحدث صبي هناك . لم أكن أتصور أن الفرن الموجود في القاعة السفلية يمكنه أن يشكل الزجاج إلي قوارير، وزجاجات، وأكواب، وأطباق.
قضيت أسبوعا للتدريب، لم أظهر مهارة في شرب الصنعة، فقد كنت أخاف أن أقترب من العجينة الساخنة التي تتشكل منها الأواني.
اكتفيت بالفرجة، وكنت أحن إلي مكاني القديم في ورشة الأثاث، حيث العمل والكلام يتداخلان بشكل تلقائي.
في الفابريقة يشغل السكون حيزا أكبر مما احتمله، ولا مكان لأي حديث، فالأسطي محمد خضير وعم محروس وفرغلي الشحط، يتعاونون جميعا في قولبة العجينة، بخلط كميات محددة من الرمل والجير والصودا ؛ ليعطي للزجاج بعض الخواص الخاصة، كالشفافية والصلابة والنقاء.
أقف علي مبعدة، ويدخل الأسطي الكبير، يرمقني في غضب : يا ولد، ألم تتعلم بعد ؟
أتحصن بالصمت الذي هو ديدن المكان، يصعد إلي الطابق الأعلي، يناديني : تعال .
أصعد السلم الحلزوني، أجدني في مواجهته : يقول محمد خضير إنك ذكي، وأنا أراك غير ذلك، ما رأيك أنت؟
يتركني والسؤال معلق في الفضاء، يمسك كتاب الله الكريم، يقلب صفحاته حتي يصل إلي سورة " مريم"، يقرؤها بصوت خشن، أسمعه يلحن في القول، لا أجرؤ علي مخاطبته ؛ لأصحح له النطق .
في يوم غائم، جاءت ابنته محاسن ؛ لتشتري صندلا أحمر بسيور، أشار لي أن أذهب معها، وتختار ما تشاء، ولكن عليّ أن أساوم البائع، ولا أسلم بما يقول بسهولة .
قالت لي محاسن، وهي تشاهد واجهات المحلات : أول مرة أراك ؟
أنا جديد .
هل أنت في مدرسة؟
في الثانوية.
أنا مثلك، ما رأيك في هذا الصندل؟
الأفضل هو الصندل الأزرق الذي بجواره.
نعم، له فيونكة جميلة.
دخلنا المحل، قاست الصندل، لف البائع العجوز ما طلبنا، وقدمه لي : اتفضل.
شعرت بالإحراج للحظة .غمزتني في ساقي، فمددت يدي آخذ منها المبلغ، ساومت البائع كما قال لي صاحب الفابريقة.
قالت لي، وهي مشرقة وجميلة، بصوت في غاية النعومة : ذوقك حلو.
عدت معها إلي الفابريقة، فضت العلبة، وأرته زوج الصندل، قال مندهشا : قلت إنك تريدين صندلا أحمر .
قالت بسرعة وهي تنظر في عيني : لقد غيرت رأيي .
مضت في اتجاه الميدان، لكزني أبوها في كتفي : يا خائب، انزل المعمل، ربما تتعلم شيئا مفيدا!
أشغال
حلقة السمك في ميدان واسع يمتد إليه الشارع التجاري بحارات متعرجة . في سجن الأشغال الشاقة، أودع زوجها بعد أن حكم عليه القاضي بالمؤبد . كانت تهمته أنه قتل شريكه في تجارة السمك بعد أن شك في سلوك زوجته .
أثبتت التحريات أن الزوجة بريئة من هذه التهمة المشينة، وأن الهواجس التي ملأت صدر " فريد" لم تكن إلا نتيجة تقصيره في مهامه الزوجية .
الزوجة لم تشتك، وظلت متمسكة بالبيت رغم أنها لم تنجب، قالت في نفسها: إن ظل رجل خير من ظل حائط، وإن الدنيا قسمة ونصيب .
قالت لها خالتها الكبري التي تلجأ إليها بعد موت أمها : كل شيء مقدر ومكتوب، الأبناء أحيانا يتسببون في المشاكل، بيتك هو جنتك، وزوجك هو غطاء وستر .
اقتنعت بذلك، وحين مرض " فريد" بالسل، نقل إلي المستشفي، منعها زوجها من المبيت معه، كان شريكه " المتولي " يزوره، ويصرف علي البيت حتي امتثل للشفاء مع وجود صفرة في ملامحه، وارتجاف في يديه .
سأل " فريد" زوجته عمن كان يحضر متطلبات البيت في غيابه، فأخبرته أنهم صبيان شريكه، فهو لم يقصر لحظة في إرسال طلباتها.
لاحظ أنها قد اشترت قميص نوم باللون الأحمر الفاقع، كان بدانتيلا بيضاء، تكشف الصدر تماما، فكر أن هذا شيء جديد عليها، ولم يغمض له جفن حتي سمع مؤذن الفجر، فنام ملوما محسورا.
قالت له : إنها ذاهبة للطبيب؛ كي يعيد فحصها من جديد، فقد سمعت عن دواء جديد، ربما فيه الشفاء لمنحها الولد، تردد قليلا قبل أن يسمح لها بالذهاب.
في يوم ثالث جهزت له " تورتة " كبيرة بمناسبة عيد زواجهما السابع، لكنه أبعد بيده أكداس الحلوي، ولم يشارك في إطفاء الشمع كما تعود معها.
حين توجه في اليوم الرابع لحلقة السمك، رأي شريكه " المتولي" يضحك باتساع فيه، حتي أنه كاد يفطس من الضحك، كان حوله ثلاثة من الصغار يداعبهم، ويرسلهم لشراء " نبوت الغفير" و" براغيث الست "، سلم مكفهرا، وجلس يتأمل الحوائط والأسقف والسماء البعيدة .
في الخامسة مساء وقبل إغلاق باب المحل الذي يقتسمان رزقه، قام بسحب سكين كبير، كان قد سنه بالسوق مقابل جنيهين.
خمس دقائق كانت كافية؛ ليغمد السكين لثلاث مرات في قلب غريمه، الذي لم يتفوه سوي بعبارات غامضة : والله ما استحق منك تلك القتلة.
تابع وأنفاسه تشحب : من غرر بك؟
ولما لم يجد إجابة قال ودمه يشخب : أنت مسكين ومعتوه .
وضع السكين بين طيات الجريدة اليومية، ذهب إلي قسم البوليس، ليسلم نفسه، قال للضابط الذي تولي التحقيق : أنا الآن مستريح تماما، لا أريد أن أقابل أحدا من أهلي .
السطح
تسلل إلي البيت الذي هجره أصحابه، وذهبوا إلي رأس البر للاصطياف .فتح القفل مفتاح أخرجه من جيبه، سحب السلسلة، ومن خلفه أعاد إغلاق الباب الحديدي في إحكام . صعد الطوابق الأربعة ثم دخل السطح، وبقفزة مدربة اعتلي السور، وقف ليجلجل بصوته : اسمعوني يا قتلة.
توقف من يعبرون أسفل البيت ؛ ليستفسروا عما يحدث . أكمل بقدر من الحنق المشوب بالغضب : سألقي بنفسي، وسأجلب لكم العار جميعا .
تجمع كثير من المارة، ووقف أصحاب المحال عند العتبات، أما هو فقد شملهم بنظرة تحمل كل معاني الاستهانة : هي قفزة واحدة، أتحول بعدها جثة هامدة.
قال صوت متردد من أسفل : تريث يا مجنون.
أسرع المعلم البصراطي، وأحضر شيخ الجامع القريب، ملتحفا بالجبة والقفطان، وفوق رأسه العمامة، راح يقلوظها، ويكبسها بيديه : انتظر يا بني.
رد الشاب وهو يفك أزرار القميص : انتظرت كثيرا، ولا فائدة منهم.
قال الشيخ بلهجة قوية فيها قدر من الاستعطاف : كل عقدة ولها حلال .لا تضيع نفسك بجريمة لا يغفرها الخالق.
أشاح الشاب بيده، معترضا عما بدر من الشيخ : هل الفقر عيب يا مولانا؟
وجدها الشيخ فرصة لبدء حوار يناوش العقل : من قال هذا ؟ ما عيب إلا العيب!
كادت قدما الشاب تتعثران، وهو في قمة غضبه : قل لهم ذلك، فهم يقفون أمام ما شرع الله، هل هذا عدل ؟
قال صاحب دكان المعسل : الشاب أعرفه، اسمه " عوض" ، ويعمل في محل الخل والكحول المواجه لي، إنه شاب مستقيم، ولم أره في يوم غاضبا .
عندما سمعت هذه العبارة، عرفت أن فتاته التي يحبها هي " منيرة " ذات طابع الحسن تحت ذقنها، وهي تعمل في محل مقابل له .
قال الشيخ وهو يتراجع خطوتين ؛ كي يري ملامح الشاب الغاضب : صل علي النبي، واخز الشيطان .
قهقه الشاب في امتعاض، معترضا علي النصيحة : الشيطان يسكنكم يا أهل الشارع . لا فائدة معي، سأقفز وذنبي في رقابكم جميعا.
من آخر الشارع جاءت امرأة ترتدي ثوبا أسودا، وهي تولول : ستضيع نفسك من أجل هذه " السنكوحة" التي لا تساوي مليما ؟
رد الشاب علي الفور : تعجبني . إما هي، وإما أن أقفز ؛ لأكون تحت أقدامكم جثة .
بطرف عيني، راقبت منيرة وهي ترتدي بلوزة وردية، تعقص شعرها برباط أزرق رفيع، وترتدي جونلة في أرضيتها وردات . كانت تنتحب في هدوء، وتستند علي جدار قديم، لمحها الشاب، فقال بنبرة آمرة، أبانت مدي سيطرته عليها : ابتعدي من هنا يا منيرة.
تراجع خطوتين ، اختفي، ليعود ممسكا بحبل مجدول، غليظ، دلدله حتي توسط الطابق الذي يليه : فكرت أن أشنق نفسي، لكن المجرمين كانوا سيفلتون بجريمتهم . يمكنني الآن أن أفضح كل من وقف في وجهي . لا أريد شيئا من الدنيا.
أخرج الشيخ منديله، مسح العرق الغزير الذي تحبب فوق عنقه : أعطني فرصة لأجيب مطلبك .
ردد البصر فيمن حوله : هل هناك موانع شرعية ؟
رد الشاب ساخرا : أبي مات . أمي وحدها يمكنها الإجابة . هي التي تولول إلي جوارك .
أتي صوتها مخنوقا، خافتا، وبدت مذعنة لهزيمتها المروعة : لا موانع شرعية يا مولانا.
أشار الشيخ بيده أن يهبط، وسيعقد قرانه في الحال . من بين الجموع دوت زغرودة، فيما غرست الأم نظراتها في أسفلت الشارع، تمتمت بغضب : أتترك ابنة خالتك ويكون نصيبك مع هذه الحرباء ؟
ثبتت منيرة نظرها في السماء البعيدة، مرق عصفور فمسح لمعة الشمس إلي حين، قالت لنفسها : حلم يكاد أن يتحقق.
دوت زغرودة من آخر الشارع، وجاءت " أم السعد " بائعة السريس، والجعضيض، والكرفس، سألت : هل يمكنني أن أوقع علي العقد.
أبعدها الشيخ بتأفف : خليك في السريس، وخلينا في الزيجة.
وضع الشيخ يده فوق كتف الشاب الذي غادر العمارة بعد إغلاق بوابتها الحديدية . أمسك بيده الأخري معصم الفتاة، سألها : هل معك بطاقة؟
هزت رأسها بالإيجاب، وهي تكاد تطير من الفرح . للحظة كلبشت في سترة الشاب ثم ابتعدت بخجل .
تعالت الزغاريد علي أبواب الجامع . بقيت الأم مترددة للحظات، ثم بكت وهي تطلق زغرودتها القصيرة المتذبذبة . وقفت بجوار ابنها الشاب الذي ربت علي كتفيها في امتنان مكتوم، وكانت ما زالت تمسح دموعها .
لم يتنازل الشيخ عن أجره، قال لتجار الشارع ممن أرادوا عتابه : هذه نقرة، وتلك نقرة أخري .. يا مؤمنين !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.