عندما أمسك بيدي مسودة كتاب أبدأ في التفكير في رد فعل قارئ "مُتخيَّل" علي هذا المشروع، هل سيعجبه عنوان الكتاب المقترح، هل سيجذبه إيقاع "الرواية" -إذا كان العمل روائيا بالطبع- أم أننا يجب أن نعمل علي تسريع الإيقاع! هل وهل وهل.. اسئلة كثيرة تحاصرني تدور كلها حول مزاج صديقي "المتخيل"؛ وتتواصل لتصل إلي شكل الغلاف وكلمته. كيف لازمني هذا الشبح! وفي أي ركن من أركان العقل يجلس ليراقبني! وكيف أصبحت أحترمه! ثم أتمثله ثم أتحدث باسمه! لم أبحث هذه المسألة من قبل حتي ألح علي الأصدقاء في "أخبار الأدب" للمساهمة في ملف عن هذا الموضوع، وهأ نذا ابدأ رحلة البحث.. أظن أن علاقتي بالقارئ، بدأت منذ نحو 20 عاما تقريبا؛ كان ذلك عندما تحولت لأول مرة من قارئ إلي كاتب؛ غير محترف في ذلك الوقت؛ كانت البداية مع إحدي المجلات اليسارية السرية، كنت أقدم عروضا لبعض الكتب وتقارير عن الاحتجاجات العمالية في حلوان -حيث ولدت وعشت لسنوات طويلة- بالإضافة إلي مساهمات بسيطة في النقاشات السياسية، كان الدرس الذي تعلمته تدريجيا آنذاك هو أننا نكتب لنقدم معلومة أو فكرة للقارئ، وبدأت الاسئلة تطرح نفسها: هل المعلومات الواردة بالتقرير (لنقل عن إضراب مصنع النصر للسيارات) كافية؟ هل نقلت صورة وافية عن الحدث؟ ولحسن حظي ككاتب مبتدئ كان قراء هذه المجلات لا يتعدون العشرات، وكنت أعرف كثيرا منهم معرفة شخصية ما أتاح لي القدرة علي طرح هذه الاسئلة علي بعضهم بصورة شخصية. سرعان ما انتقلت من الكتابة في المجلات السرية إلي جريدة محلية صدرت في حلوان عام 1995، وهناك التقيت بصحفيين محترفين وكانت تلك قفزة إضافية لفهمي لعلاقة الكاتب بالقارئ، فلكتاب المجلات السياسية اعتقاد دائم أن لهم رسالة دعوية، تجعلهم يفرضون وصايتهم علي المعلومة التي يجب أن تصل إلي القارئ، فقارئهم هو تلميذ في مدرسة "الثورة" ويجب عليه أن يفهم أن كل حدث هو خطوة علي طريق "الثورة العالمية" أو "انتصار الإسلام" أو "مشروع القومية العربية".. أما في الصحافة الاحترافية -وليس منها في مصر إلا القليل- فالمطلوب أن تجذب القارئ وتجعله متابعا لك عبر مزيج من السبق في المعلومة والتميز في طريقة عرضها. عبر رحلة من جريدة إلي جريدة بدأت مع مفصل الألفية في استيعاب الموضوع بصورة أكثر وضوحا، فعلي كل مطبوعة (صحيفة/مجلة.. إلخ) أن تحدد القارئ "المستهدف" لها؛ فلا أحد يستطيع أن يصل لكل القراء في نطاق منطقته اللغوية، وحتي إن كانت له إمكانية الوصول فلن يمكنه أن يقدم المعلومات التي يحتاجها الجميع بطريقة العرض المناسبة، فلرجل الأعمال أولويات في المعلومات التي يطلبها تختلف عن الموظف تختلف عن المسؤول الحكومي، خذ مثلا خبر مشروع قانون يتضمن زيادة الضرائب؛ فالأول سيبحث عما حدث بالنسبة لضرائب الأرباح بينما الموظف ستهمه ضريبة الدخل أما المسؤول فسيفضل ألا ينشر الخبر من الأساس، أو يقدًّم وكأن الضرائب ستقل ولن تزيد.. كان القارئ "المستهدف" -الذي تعلمت أن اختياره ليس ترفا- هو أساس قارئ إصدارات دار صفصافة "المتخيل" منذ البداية بالفعل، فعندما كانت "صفصافة للنشر" مجرد مشروع كان المخطط أن إصداراتها ستتوجه إلي مجموعة محددة، عمادها القارئ "الجديد" -إن صح التعبير- للأدب والمهتم بالدخول إلي عالم الثقافة تقوده أيد رفيقة، فكانت دواوين العامية من بين باكورة إصداراتنا، وكانت كتب وروايات تقدم بجرأة وبساطة نافذة مختلفة علي "الآخر" دون وصاية أو تقعر؛ كانت لدينا بعض الكتب الأكاديمية كذلك ودواوين قصيدة النثر لكنها لم تمثل الخط الأساسي للإصدارات. ثم كانت ثورة يناير 2011؛ وقال "الميدان" للديكتاتور أن "ارحل" فرحل، وقالت الثورة للمصريين أن كونوا شعبا فصاروا شعبا، وجرفنا التيار، كان علينا أن نعيد النظر في توجهات "صفصافة"، واحتاج الأمر منا نحو عامين لنعيد اكتشاف قرائنا وسط الدم والرصاص الذي طغي علي المشهد في تلك الفترة؛ اخترنا في "صفصافة" أن ندعم التوجهات "التقدمية" في الثقافة المصرية؛ "تقدمية" علي طريقة الثورة المصرية وليس علي طريقة "تقدمية" حزب التجمع؛ واخترنا أن يكون قراؤنا هم ممن يرغبون في المساهمة في تغيير وطنهم والعالم ويبحثون عن المعرفة التي قد تساهم في ذلك، قررنا التوسع في ترجمة الأدب والفكر ضمن شروط محددة، فنحن نترجم كتابات المرأة عبر العالم بهدف إيصال الأصوات غير التجارية، وأطلقنا سلسلة للكلاسيكيات تترجم بعض المصادر الأساسية للمعرفة التي كانت أسس حركة التنوير في العالم؛ وتعاقدنا علي عناوين عديدة تقدم تجارب التغيير في العالم؛ ومن المكتوب بالعربية قدمنا أعمالا في نقد الخطاب الديني وقراءات مختلفة في التاريخ وأعمال سردية توثق لثورة يناير وللتغيير الحادث في مصر عبر العقود الأخيرة، مع استثناءات محدودة طبعا. هل نجحنا أم أخفقنا في الوصول لقارئنا "المتخيل"! لا أستطيع أن أقدم حكما نهائيا الآن -وربما لست مؤهلا لذلك- ولكن العديد من القراء -الذين انتقل بعضهم مع الوقت من تصنيف "المتخيل" إلي "الصديق الحقيقي" دعموا توجهاتنا الجديدة، وساعدونا في تطوير رؤيتنا وآليات تقييمنا لمكونات الكتاب؛ لكل هؤلاء وللعديد من القراء الآخرين الذين يدعموننا بشراء أو نقد ما يصدر.. لكل القراء الأعزاء.. شكرا. مدير صفصافة للثقافة والنشر