كجذع شجرة قديم جلس القرفصاء علي يسار باب التُربة، ساقاه نحيلتان وبشرته تميل للسمرة ويداه جافتان تكاد العروق تنفر منهما.. لكن حركة أصابعه وهو يلف سيجارته تخبرنا بأنه ذو خبرة واسعة في لف السجائر.. ورقة "البفرة" في يسراه وأصابعه الطويلة تقبض علي حفنة التبغ من علبته الفضية التي يبدو عليها رسومات قديمة غير واضحة من أثر الزمن.. بدأ في لفها بحرفة.. بلل طرف الورقة بطرف لسانه.. برمها عدة مرات.. الحاج عبد الشكور لا يحب سجائر "المَكَنَة"، دائماً علبة الدخان في جيب صِدَاره لا تفارقه. دخان كثيف يندفع من أنفه يختلط بضوء الشمس وعيناه ساهمتان في لا شيء.. عندما بدأ الغبار يعلو من بعيد فوق الجسر غرس بقية السيجارة في طين الصبارة بجواره وتناول فأسه استعداداً لإتمام مراسم الدفن. رجال القرية وشبابها يسيرون خلف النعش في خطوات مضطربة؛ بعضهم يبكي والآخرون تبدو علي وجوههم قسمات جادة صلبة.. عم عبد الشكور يعرف كل الوجوه التي كان من بينها الأستاذ سيد؛ ابن عبد الصمد أبو حطب، كان وجه سيد علامة تعجب ودهشة وسط الجميع، بدا ذلك واضحاً عند وصوله إلي باب التربة المفتوح، وكادت عيناه تقفزان داخل القبر.. جذبه عم عبد الشكور داخل القبر ليساعده في دفن الميت.. ذُهل سيد من هول المفاجأة رغم أنها لم تكن المرة الأولي التي يدخل فيها مقبرة، فقد اعتاد ذلك كثيراً في زياراته لمقابر الفراعنة أثناء دراسته في كلية الآثار.. عاودته ارتعاشاته أمام مناظر المومياوات، لكن مخاوفه بدأت تتواري مع تتبع يدي عبد الشكور وهي تقوم بالدفن بخفة وصنعة وأُدهش من صلابته وتماسكه وكأن الخوف انتُزع من قلبه نزع النجيل من الأرض. لم تتوقف دهشة سيد ولم يكف عن التفكير فيما يقوم به عبد الشكور إلي أن طلبت عائلته من الرجل إعادة بناء تربتهم التي تهالكت وكادت تتهدم، فقد كانت الترب القديمة عبارة عن قباب من الطين اللبن الذي تهالك، وسقط بعض أجزائها العلوية وأصبحت المقبرة مكشوفة للسماء.. الرمل تحول إلي تراب أسمر من أثر الدم ورماد العظام المختلطة بأديم الأرض.. لم يتأخر عبد الشكور في أمر يتعلق بالترب والموتي.. الجميع ينظر إليه وهو يقف علي التراب الناعم ويلتقط قوالب الطوب بعناية فائقة حتي لا يسقط علي الرفات تحت قدميه.. كان ينتقل بخفة وحذر وهو يتأسف ندماً ويتمتم: "سامحوني".. العرق يتصبب فوق جبينه علي عينيه والتراب تهيَّل فوق رأسه. سيد يتابع المشهد بشغف ويرقبه وهو يضرب القوالب بكفه فتسقط في الكف الأخري: "أنزل معاك يا عم عبد الشكور".. " لأ، الله يخليك يا بني.. تنزل معايا إيه!". غابت الشمس ولم تنته عملية الهدم بعد.. أصبحت التربة مكشوفة والحاج إبراهيم أبو حطب في كفنه الملطخ ببقع الدم البنية، فقد كان آخر من مات من العائلة.. هبط الليل بكثافة وتأزم الموقف؛ كيف سيتركون ميتهم هكذا في العراء واختلفت الآراء، فالبعض يصر علي مواصلة البناء والبعض الآخر يفضل استكماله في الصباح "في نور ربنا".. وضع عبد الشكور الجثة في وسط التربة وأحاطها بقوالب الطوب وأكد لهم أنه سيعود للاطمئنان عليها بعد أن يغتسل من أثر التراب والعرق. نظر سيد لعم عبد الشكور وسأله: "هترجع تاني يا عم عبد الشكور؟" فهمس في أذنه: "متدقش يا بني. أصل أنا مسموحلي.. !". تشكك سيد في رجوع عبد الشكور.. فترك علبة الشاي علي حائط التربة حتي يتأكد من مجيئه.. وبات طوال الليل ممدداً علي فراشه ولم يغمض له جفن.. ماذا سيحدث لعبد الشكور حين يذهب إلي الترب في عتمة الليل والتربة مفتوحة، ألا يخشي الثعبان الأقرع، إن طوله أكثر من مائة ذراع.. و"ممكن يِتْلِبس!". في الصباح أسرع سيد إلي الترب، كان عبد الشكور شرع في مواصلة العمل مع أول خيط للنهار. بحث سيد عن علبة الشاي فلم يجدها، "ولكن من الممكن أن يكون واحد من الذين حضروا قبله هو الذي أخذها"، تحير بعض الشيء وعبد الشكور ينظر إليه من آن لآخر ولم يستطع سيد الصبر: "إنت جيت إمبارح يا عم عبد الشكور؟".. "أُمّال مين اللي نسي علبة الشاي هنا" ازدادت دهشة الأستاذ سيد ولكن تلك المرة كانت مليئة بالإعجاب والانبهار. انتهت عملية البناء.. وصورة عبد الشكور وهو يرفع بيده عظام الموتي ويصفّها فوق بعضها البعض في ركن من التربة، لم تفارق خيال سيد.. فقد أصبح ممسوساً بالرجل. كان عبد الشكور جالساً علي رأس "الغيط " وأسند رأسه إلي جذع شجرة السنط متأملاً حركة الساقية وهي تدور، والفحل الضخم معلق بها، لا يتواني ولا يتوقف حتي يحل عبد الشكور وثاقه ويزيل الغمامة من فوق عينيه.. كان فحل عبد الشكور مشهوراً بالفتوة و"التنطيط".. الفلاحون يأتون ببهائمهم تحت شجرة السنط العجوز، فقد كان فحل عبد الشكور الشب الوحيد في القرية الذي يقوم بهذه المهمة.. بعد أن ينتهي يربطه في الشجرة ويرمي أمامه أعواد "الجراوة" الخضراء ويجلس ليستريح إلي جذع الشجرة بجوار الترب، فقد كانت الترب تلتصق بأرضه، يدخن ويشرب الشاي مع بعض الفلاحين الذين اعتادوا الجلوس معه تحت ظل الشجرة العتيقة يتبادلون الحديث عن القرية وأحوالها: يا أخي الانتخابات المرة دي مولعة نار. تفتكر العمدة سماح هينجح المرة دي كمان؟ الله أعلم! إيه رأيك إنت يا حاج عبد الشكور؟ والله ما أنا عارف.. والله يا أخي الواحد ما زعل إلا علي موت الشيخ صلاح، كان راجل بركة.. والله ما حد كسبان إلا الجماعة دول "يشير إلي الترب". أهو العمدة سماح برده بيخدم. بيخدم واللا ما بيخدمش، إحنا هناخد إيه من ده ولا ده. الواحد بس بيخلص ضميره من ربنا. أنا يا عم مع اللي يخدمني ويمشي لي مصالحي. أهو الواحد علي الأقل يضمن إن مفيش حد ييجي يجره من قفاه وهو نايم في سريره. أيوه يا عم قول بقي إنك خايف لحد ييجي يخدك من حضن المرة. ضحك الجميع بينما يفرق عليهم عبد الشكور الشاي. كان سيد يمر عليهم في بعض الأحيان يلقي بالسلام ويستمر في طريقه فيردون، ويضيف عبد الشكور "اتفضل يا أستاذ سيد.. اشرب شاي". يرفع سيد يده فوق رأسه إشارة إلي الشكر والتقدير. انتهز سيد فرصة، ذات مرة، كان عبد الشكور جالساً بمفرده فهرع للجلوس معه.. نهض عبد الشكور يستقبله.. أجلسه.. ظل يتابعه بدقة وهو يلف السيجارة.. قدمها له.. تناولها رغم أنه لا يدخن، فقد كان يخشي التدخين حفاظاً علي الصحة والجيب. دخنها وكان حريضاً علي ألا يسعل. قل لي يا عم عبد الشكور. نعم يا أستاذ. إنت ما بتخفش وإنت داخل الترب؟ كل مرة يا بني بأحس إني مش هاخرج من التربة تاني. تعجب سيد فقد كان يظنه لا يخاف.. كان رده يبعث في نفس سيد الفضول والشغف.. صمت فترة ولم يعرف كيف يستأنف الحديث مرة أخري.. انتهي عبد الشكور من إعداد "دور الشاي" وناول سيد كوباً وشرع في الحكي: " مرة يا سيد كنت دافن واحدة.. وجولي أهل الميتة الساعة تيجي اتنين بالليل علشان أروح أفتح التربة تاني.. كانوا نسيوا يقلعوها الحلق.. نهايته، قلتلهم: من عينيه.. روحوا إنتم بس ومتشغلوش بالكم. ورحت فتحت التربة ودخلت.. مديت إيدي علي ودنها من تحت الكفن، لقيت إيدي اتزقت واترعشت رعشة ما شفتهاش في حياتي.. خفت، قلتلهم: أنا هاخد الحلق بس، وهامشي علي طول. مديت إيدي مرة تانية والرعشة مسكتني تاني، أشد م المرة الأولانية.. وعرقت، قلت: أنا هاخد الحلق وهامشي.. معلهش. وفي المرة التالتة زي ما يكون حد شالني وهابدني ف الحيطة.. طلعت أجري زي البرق.. وما أعرفش روحت إزاي.. اتغطيت بلحافين.. وعييت فيها أسبوع". أحس سيد بالخوف رغم ما قرأه وتعلمه عن لعنة الفراعنة.. كان عبد الشكور يبدو شامخاً وهو يحكي عن ذكرياته مع الموتي وشعر بحميمية تجاه سيد فظل يسرد له الكثير من الحكايات والقصص وسيد مأخوذ بسحر الحكي ومنبهر بإشاراته وتعبيرات وجهه، حتي دخان سيجارته كان له تأثير قوي عليه.. لم يتوقف عبد الشكور عن الحكي حتي جاء رجل من أهل القرية يهرول.. مد يده بمفتاح، وقال: "العمدة سماح.. مات". قام عبد الشكور وتوجه إلي الترب وهو يقول لسيد: "الحكايات دي أسرار يا سيد". هز سيد رأسه وهو يشعر بنشوة غريبة. بعد عدة أيام ذهب سيد ليري عم عبد الشكور عند شجرة السنط التي يربط فيها الشب.. لم يجده ولم يجد الشب.. علم أنه مريض منذ ثلاثة أيام.. وصل سيد إلي بيت عم عبد الشكور فسمع صراخ النساء وعديدهم.. قال أحد الواقفين من أهل عبد الشكور: إنت جيت يا أستاذ سيد. خد، دي وصيته "وأعطاه شيئاً في قبضة يده كان قابضاً عليه.. وسارت الجنازة بين شوراع القرية الضيقة ومع كل خطوة يزداد الزحام إلي أن خرج المشهد بعيداً عن البيوت. كان سيد أمام باب التربة المفتوح.. يجلس القرفصاء خالعاً جلبابه وقد كنس أمام باب القبر ونظفه جيداً ورش المياه الباردة وسقي الصبارة وأخرج علبة الدخان من الصديري ولف سيجارة وظل يمتص منها الدخان بعمق.