أظننا في غير حاجة إلي دليل علي تدني الحالة الثقافية للشعب المصري بأجياله المتعاقبة لنعرف إلي أي منحدر انتهينا، فكل ما ذكرناه من حشود بشرية ومالية ومن أبنية وإصدارات ورقية لم ينجح في بث وعي ثقافي أو فكر مستنير أو ذوق جمالي أو امتلاك للمعرفة، ويعكس الفشل في تأصيل الاحتياج للثقافة في المجتمع كغذاء ضروري للجزء العلوي من جسد الانسان في مقابل ضرورات الجزء السفلي منه، بما يجعل من المواطن عنصراً إيجابياً مشاركاً وفاعلاً ومشبعاً بقيم الحق والخير ومتذوقاً ومبدعاً للجمال، بل رأينا علي العكس من ذلك انحساراً واضحاً للمد الثقافي، ترك فراغاً هائلاً في المجتمع وفي تكوين البنية الروحية والثقافية للأجيال المتلاحقة، ولأن أي فراغ يستدعي ما يملأه، كان من السهل ملؤه ببدائل سطحية وأفكار رجعية تعمل علي تغييب العقل و الانسحاب إلي الخلف وترك الساحة مفتوحة لأصحاب الفكر الظلامي الذين استطاعوا اختطاف عقل المجتمع بلا منازع! ومن عدم الإنصاف تحميل الجهاز وحده مسئولية هذه الحالة، فهي بغير شك جزء من عوامل مركبة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية أوجدتها أنظمة حكم مستبدة وإدارة فاسدة علي مر العقود الماضية حتي وصلت بالشعب إلي حالة من اليأس والتحلل القيمي، والحقيقة أن من الصعب القول أن هذا الجهاز كان يدار برؤية وبسياسة مخططة لخدمة تلك العوامل المركبة، بل الأدق هو القول بأنه كان يدار بلا رؤية أساساً، فأصبح كقطار بلا سائق، وإن وُجد فهو بلا خارطة طريق أو هدف يتجه إليه فصار يمضي بغير هدي، وقد طاله الترهل والفساد مثلما طالا بقية مرافق الدولة.. واليوم وبعد ثورتين شعبيتين باتت الحاجة ملحة إلي مثل هذه الخارطة الغائبة لتحقيق أهدافها الثورية المعروفة، برؤية واعية بحتمية التغيير، لهذا رحبت باختياري من قبل وزير الثقافة د. جابر عصفور ضمن أعضاء لجنة تضم مجموعة محترمة من المثقفين وأصحاب الخبرة والكفاءة، لدراسة أوضاع الهيئة وبحث جوانب قصورها والعمل علي تطويرها. وقد مضت عدة أشهر علي قرار تشكيل اللجنة، بدون أن تُدعي إلي الاجتماع أو أن يعلن منهج عملها وآلياته حتي الآن، بما لا يبشر بجدية انطلاقها نحو أهدافها، ومن منطلق إحساسي بالمسئولية التي حملتُ جانباً منها في تأسيس هذا الجهاز منذ الستينيات، مما أسفر عن تجربة ذائعة نُشرت في كتاب معروف هو: "الصامتون تجارب في الثقافة والديمقراطية بالريف المصري"، فإنني أطرح اليوم هذه المبادرة كورقة عمل لتطوير الهيئة، داعياً إلي حوار يمكن أن يفيد في النهوض بها. ورقة عمل حول تطوير الهيئة العامة لقصور الثقافة الرؤية الاستراتيجية: تمثل الهيئة: "الرافعة الكبري" التي تنقل منتجات الثقافة ذ بكل مجالاتها ذ من آلة الإنتاج المركزية بالعاصمة إلي ملايين المصريين بتجمعاتهم الشعبية بالقري والمدن والمناطق النائية، كغذاء ضروري وحق أساسي يكفله الدستور، محققة بذلك مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية مع سكان العاصمة والمدن الكبري، في الاستمتاع بثمار العمل الثقافي كأحد مبادئ ثورة يناير 2011، ذلك أن الثقافة مقوم رئيس لبناء الإنسان والمجتمع ولتعظيم معني الحياة. ولا يقتصر دور العملية الثقافية علي إشباع احتياج المواطنين كمستهلكين للثقافة، بل إن علي الهيئة جعلهم منتجين لها، بتوفير كافة الإمكانات لديهم لبناء الكوادر والآليات الثقافية بكل إقليم وصولاً لأبعد مكان فيه، حتي يطلق طاقات الإبداع لأبنائه خاصة الشباب والأطفال عبر آليات تتكافأ مع مثيلاتها بالعاصمة، ما يستدعي إيجاد المقومات الضرورية ومراكز التدريب للكوادر والمحركين الثقافيين الإبداعيين، بما يجعل في كل إقليم مشروع وزارة مصغرة للثقافة، حتي يقل تدريجياً الاعتماد علي العاصمة ويستقل كل إقليم بإمكاناته. كما أن تلك العملية الثقافية لا تستهدف فحسب إشباع الحاجة إلي المتعة والترويح بالفنون والارتقاء بالوعي والذوق عبر وسائل المتعة البصرية والسمعية ومنابع الأدب والفكر، بل تتطلع إلي التغيير القيمي لعقل وسلوك أبناء المجتمع، بتدريبهم علي النقد الموضوعي للموروث السلبي، وانخراطهم في قضايا العصر، ومشاركتهم أفراداً وجماعات أهلية في حمل مسئولية تغيير الواقع اجتماعياً وسياسياً وتعليمياً واقتصادياً وبيئياً، ما يجعل من الثقافة قاطرة للتقدم وأداة لتحقيق مبادئ وأهداف الثورة.. كل ذلك بإتاحة الممارسة الديمقراطية من خلال منابر الثقافة بكل موقع. جدير بالهيئة أن تمسك بزمام القيادة للمشروعات الثقافية المشتركة مع مختلف الوزارات ذات الصلة بهذه الأهداف بكافة المحافظات، مثل التعليم والشباب والتضامن الاجتماعي والتنمية المحلية والبيئة وجهاز محو الأمية، من خلال اتفاقيات ذات بنود ملزمة واعتمادات مالية مقررة. انطلاقاً من أن الثقافة قضية قومية متكاملة الأبعاد، ورأس الرمح لتحقيق الأهداف العليا للوطن، ويدخل ضمن هذا إلتزام المحافظين بأن تكون للعمل الثقافي أولوية في اهتماماتهم وميزانياتهم. إن نجاح العملية الثقافية بهذه الرؤية يمثل خط الدفاع الأمامي للعقل المصري والأمن القومي، بما يحصن الفرد والجماعية ضد التطرف والتعصب والإرهاب والطائفية، ويشيع الفكر التنويري الداعم للعقل النقدي والممارسة الديمقراطية والمشاركة المجتمعية إضافة إلي تأسيس الذائقة الجمالية وتأصيل القيم الأخلاقية. وتتطلب هذه المحاور الاستراتيجية أفكاراً إبداعية لتحقيقها، عبر خطط وبرامج عمل وبأسلوب علمي ومؤسسي، بعيداً عن العمل العشوائي والأداء البيروقراطي، وملء الخانات علي الأوراق، مع الاستفادة في الوقت ذاته بالخبرة التكنولوجية ووسائط الاتصال الحديثة والرقمية، باستثمار طاقات الشباب ومراكز الكمبيوتر في كل موقع ثقافي، نحو ربطهم بواجبهم ودورهم في الثورة. رؤوس موضوعات للمناقشة: وضع الرؤية الاستراتيجية للهيئة بما يحقق أهداف الثورة، مع العودة إلي مسماها الأصلي "الثقافة الجماهيرية". وضع المعايير الضرورية للقيادات وآلية اختيارها وترقيتها وإثابتها. إيجاد نظام علمي لتدريب العاملين (معهد مدرسة بوتقة تفاعل ميداني... الخ). تفعيل قوافل الثقافة المتنقلة، مزودة بالفرق والأنشطة الفنية والثقافية. كيفية خلق كوادر ومجموعات شبابية من أهل القري (باسم أصدقاء القافلة) ليكونوا همزات وصل مع القصر المركزي وشتلات ثقافية في الأقاليم.